في شوارع العاصمة تونس , في محطّات النقل الكبرى , خلف المقرات الأمنية … يفترش المئات من المتشردين الأرض، فتراهم عراة و جياعا, ورغم غياب احصائيات رسمية دقيقة توثّق الظاهرة وتفككها من الداخل، إلا أن الأمر أصبح واضح للعيان أن أعداد المشردين باتت كبيرة.
لذلك بات من الضروري التساؤل حول مصيرهم ? والأسباب العميقة التي تقف وراء تشردهم.? وهل توجد إحصائيات حول هذه الظاهرة وحول آفاق تطورها المستقبلية؟
سنسعى الى الإجابة عن جملة هذه الاسئلة من خلال استجواب بعض المتشردين , علاوة على الاعتماد على الدراسات التي أنجزتها جمعية ” دار تونس ” , فضلا عن الاستناد إلى الإحصائيات التي يصدرها كل من مركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بالزهروني .
لا أحد يعلم من أين أتى ولا حتى اسمه … يعيش على أرصفة تونس أو في بعض محطات المترو. يغطي جسمه بخرق بالية ، وقد طمست الأوساخ ألوانها. ينام على حشية رثّة , ستفهم من سعاله أن الجراثيم والرطوبة أنهكا جسده العليل , الجميع ا يعرفونه، ومعظمهم يساعدونه ببعض المال أو بعض الطعام. لكن أحداً لا يستطيع توفير مأوى له. عبثاً تحاول التحدّث إليه، فهو يهاجمك إن حاولت سؤاله عن حاله.
في حديقة “الباساج”، أكبر حدائق العاصمة ، ينام عجوز وقد تقوقع على نفسه،. على العشب ” فربما يدفئ بعضه .. يغطي نفسه بخرقة بالية، لعلّ الدفء يصل إلى بعض مفاصله. ووفق ما اخبرنا به معظم المتجولين في المكان. لا يبرح الحديقة و كغيره من المشردين، يقتات على بعضٍ ممّا يقدمه الناس له. لكنه لا يجالس أحداً ولا يخبر أيّاً كان من أين أتى أو ما الذي أصابه .
بين تجاهل الشعب و عنف الدولة …
بلغة الأرقام لا يمكن لأي جهة اليوم في تونس تحديد عدد التونسيين والتونسيات الذين يعيشون في الشارع بل أن عددهم يزداد يوميا بحسب جمعيات ومنظمات من المجتمع المدني ، يشير جل المتدخلين في هذا المجال، سواء من الناشطين في المجتمع المدني أو المسؤولين في مراكز وزارة الشؤون الاجتماعية، إلى أنّ عددهم يقدر بالمئات. و من أهم الأرقام التي تحصلنا عليها:
-جمعية بيتي: تعكف جمعية بيتي على متابعة 280 حالة، وتوفر السكن المؤقت للنساء فاقدات السكن في مبيت تصل طاقة استيعابه اليومية إلى 8 نساء.
– مركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بسوسة: تصل طاقة الاستيعاب اليومية إلى 36 شخصا وبمعدل سنوي يتراوح بين 250 و270 حالة.
فحين ان وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة المرأة ومصلحة رعاية المسنين التابعة لها لم تقم بأي مجهود لإنقاذ سكان الشوارع وحسب ما استقيناه من شهادات فإن الدولة بأجهزتها المختلفة تمارس نوعا من العنف على الذين يعيشون في الشوارع غير مسبوق ففي عديد المرات حصلت حالات تعنيف لـ ” سكان الشوارع ” من طرف عمال النظافة وأعوان المراقبة التابعين للبلديات ومنهم من تم حجز فراشه وغطائه وطرده من المكان الذي ينام فيه . عنف الدولة هذا عمقته مأساة أخرى بطلها هذه المرة الشعب الذي أصبح يتعامل مع هذه الظاهرة على أنها مسألة عادية وجزء من الديكور الاجتماعي في تونس.
فمن المقرف أن تلاميذ المدارس حولوا ” سكان الشوارع ” إلى وسيلة للترفيه يعبثون بأغطيتهم وأفرشتهم ويتراكلون أمتعتهم البسيطة ولك أن تتصور مشهد هذا الشيخ أو هذه المرأة المسنة وهي تجري وراء الأطفال لالتقاط ما يمكن أن يحميها من برد الشتاء على مرأى ومسمع من المارة الذين يواصلون طريقهم غير عابئين بمعاناة أبناء وطنهم .
أسباب تنمى ظاهرة سكان الشوارع …
نحو 100 مليون شخص في العالم يعيشون بلا مأوى أغلبهم من النساء والأطفال … أسباب هذه الظاهرة في تونس مختلفة فمنها ما أنتجه الفقر ومنها ما سببه الانقطاع المبكر عن الدراسة أو السجون التي تعتبر مصدرا رئيسيا لـ ” سكان الشوارع ” إلى جانب أولئك الذين يتلقون علاجا في مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبية ولا يكون لهم مأوى أو عائلة . فيلجؤون إلى الشارع … كما أن الإنجاب خارج إطار الزواج يعد من بين العوامل المؤدية إلى ارتفاع هذه الظاهرة خاصة فيما يتعلق بحالات الأمهات العازبات اللواتي ترفضهن عائلاتهن ومجتمعهن المصغر … كما يصنفها المختصون في علم الاجتماع إلى ما هو “هيكلي” أي مرتبط بالطبيعة التقليدية للبنى الاجتماعية، وماهو “مباشر” أي متعلق أساسا بالظروف المادية والنفسية التي يعيشها الفرد . وفي هذا السياق يشير عبد الباسط الفقيه ، الباحث في علم الاجتماع , إلى الدور الكبير الذي تلعبه هشاشة الوضعية الاقتصادية في تشكيل هذه الظاهرة . ولكن يضم الشارع أيضا من يختارون البقاء فيه إذ يتحول الشارع إلى نمط حياة تغلب عليه الفوضى … بعضهم يتخوف من اللجوء إلى المأوى ومن المعاملة التي يمكن أن تشملهم والبعض الآخر اختار نمط الحياة في الشارع وتأقلم معه ولم يعد يستطيع التأقلم مع أي نمط آخر.
منظومة اجتماعية مريضة …
على المستوى النظري تقوم منظومة رعاية المسنين وفاقدي السند في تونس على ثلاثة مراكز تهتم بالمشردين، والتي من المفروض انها بعثت لخدمة هذه الشرائح الاجتماعية . ولكن أمام استفحال الأزمة الاقتصادية وتردي الأوضاع الاجتماعية وتقلّص موارد الدولة الموجهة لهذه المراكز فإن المنظومة برمتها انهارت وأصبح من الصعب تحمل مسؤولية هذه الشرائح الاجتماعية صحيا ونفسيا وعلى مستوى الإيواء والغذاء … ومن بين المراكز التي تهتم بالمشردين، نجد “مركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بالزهروني “. لكن طاقة استيعابه، التي لا تتعدى 50 حالة على أبعد تقدير، متواضعة جداً بالمقارنة مع هول الواقع. هو يوفّر الإقامة والمأكل والكسوة إلى جانب العلاج في بعض الأحيان، لا سيما للنساء والمسنين. كذلك، يستقبل بعض المسنين الذين فقدوا السند لمدّة زمنية معيّنة، قبل تحويلهم إلى دور المسنين. و يأوي المركز أيضاً أمهات عازبات ترفضهن عائلاتهن، أو بعض الأطفال الذين يحوّلون لاحقاً إلى مراكز رعاية الطفولة. فحين تعهد هذا المركز خلال سنة 2015 بـ495 حالة بينهم 117 طفلا مهددا و48 اما عزباء و22 رضيعا و25 مسنا و128 فاقد سند بينهم زوجات معنفات و53 شخصا في وضع ترد اجتماعي بينهم مشردون و63 شخصا من المناطق الداخلية اضطروا للإقامة في تونس للتداوي وهم من فاقدي السند في العاصمة وليس لديهم امكانيات الاقامة في النزل.
دور فاعل للمجتمع المدني
في الأثناء، تساهم الجمعيات، خاصة الناشطة في المجال الإنساني، بشكل فاعل في مساعدة المشردين سواء عبر توفير مراكز لاحتضانهم أو عبر توفير المستلزمات الأساسية من مأكل وملبس… فنجد جمعية ” دار تونس ” التي تعد من أولى الجمعيات التي اهتمت بموضوع التونسيين الذين يعيشون بلا سكن وتوضح مؤسستها روضة السمراني أنّ ” النساء بلا مأوى يشكلن 30 % من مجمل المشردين، في مقابل 70 % من الرجال”، مشيرة إلى وجود “أعداد من الأطفال المشردين. أما المشردة الأصغر سناً التي عثرت عليها الجمعية، فتبلغ من العمر 10 سنوات”.
وتشير السمراني إلى أنهم يقومون بجولات ليلية للبحث عن هؤلاء والاهتمام بهم. بمساعدت أطباء ومتخصصين، و يقضوا بعض الليالي في تأمين المساعدات لهم، من أغطية وفرش ومعاطف، بالإضافة إلى تقديم الإسعافات العاجلة والأدوية والغذاء. وهم يعثرون على معظمهم في الحدائق العامة ومحطات النقل. وهي تطمح إلى إنشاء مركز إيواء ل100 من أصل 3000 متشرد ، لكن معالجة تنامي ظاهرة المشردين تستلزم مزيداً من التمويل والمساعدات
لكن الجمعية تعاني صعوبات مادية ، نتيجة نقص التمويل ومحدودية التبرعات التي تصلها بحسب السمراني
ومهما يكن من اختلاف في الرؤى فانّ تفاقم ظاهرة سكان الشوارع أو ما يسمّى اصطلاحا سكان بلا مأوى قار، أصبح بمثابة الجرح الغائر في المجتمع التونسي حيث بان بالكاشف وجود هوّة شاسعة بين ماهو نظري تشريعي وبين ما يحدث على أرض الواقع من انتهاكات لأبسط حقوق الانسان .