النبش في المزابل … قوت “البرباشة” ومصدر رزقهم في تونس
احيانا تفرض علينا الطبيعة بعض الاعمال الشاقة . و عندما يكون الشارع مصدرا للرزق والقوت اليومي، يكون على السواعد الكادحة , الكثير من الصبر والتحمل يضاف إلى ذلك جانب كبير من الحيطة والحذر … وهو حال فئة واسعة من التونسيين تعكس نمو ظاهرة أضحت متفشية في العاصمة الا وهى ظاهرة ” البرباشة ” , كما يسمونهم باللهجة التونسية
وهم الأشخاص الذين يقومون بالبحث في القمامة , في الشوارع وفي المصبات العشوائية لجمع ما قد يصلح لاستغلاله أو بيعه . قتراهم يجوبون الشوارع والأزقة وهم يبحثون داخل حاويات الفضلات المنزلية عن قارورة بلاستيكية , علبة مشروبات الأكياس , بقايا الألمنيوم , علب الجعة , ومختلف المواد القابلة للرسكلة … و التي تحتوي على معادن قابلة لإعادة التدوير , هم باختصار أناس تقطعت بهم سبل الحياة فوجدوا في هذا النشاط مورد رزق لهم .
هم بعيدون عن السياسة , لا يهمهم أمر الاقتصاد , نزول العملة أو صعودها، همهم الوحيد هو البحث عن نفايات لا يمكن أن تطالها البلديات وأعوان النظافة . عربة وكيس بلاستيكي … هذا كل ما يملكونه من أدوات للعمل …
رغم ارتفاع أعداد ” البرباشة ” في تونس، حيث تشير إحصائيات رسمية إلى أن عددهم يناهز 8000 شخص، وأنهم يساهمون بنسبة 60 % من أنشطة رسكلة النفايات في تونس ، إلا أن ظروف عملهم تبقى صعبة ودون أدنى حماية و بعد رصدنا لظاهرة “البرباشة” وما يشهده هذا القطاع من تهميش خصوصا على المستوى الصحي … اردنا تسليط الضوء أكثر على هذه المسألة من مختلف جوانبها.
منظومة “إكولف” الحكومية
لقد حاولت الدولة التعامل مع ظاهرة ” البرباشة ” بعد تفاقمها، منذ عدة سنوات، واتخذت جملة من الإجراءات والقرارات لتأطير هذا النشاط وضمان الحد الأدنى من ظروف السلامة والمتابعة الصحية، وفي اتصال لنا مع المكتب الإعلامي للوكالة الوطنية لحماية المحيط ، أوضح مصدرنا أن آخر الأرقام والتي تعود إلى سنة 2013 تؤكد على منح قرابة 157 شركة رسكلة رخصة عمل وأن هذه التراخيص تضبط عبر مقاييس محددة فيما نفى مصدرنا معرفته بالعدد الجملي للعاملين في قطاع الرسكلة في السوق السوداء لغياب دراسات وأرقام على هذا المستوى ، كما دفعت المردودية الاقتصادية للتصرّف في النفايات ورسكلتها الدّولة إلى وضع منظومة تعرف بمنظومة ” إيكولف ” للتصرف في النفايات . و توفر هذه المنظومة حسب إحصائيات رسمية نحو 15 ألف فرصة عمل نسبة كبيرة منها لصالح أصحاب الشهادات العليا ، كما انها تهدف إلى تقليص كمية النفايات التي يتم دفنها في التربة ، وذلك لحماية البيئة من أضرار البلاستيك , استغلال أكبر قدر ممكن منها في إنتاج الطاقة كما يمكن إعادة استخدامها مجددا عبر إعادة رسكلتها .
ويجدر التّذكير أنّ تونس رفعت منذ سنوات شعار ” النّفايات مصدر للثّروات ” الذي تسعى من خلاله إلى تطوير سوق العمل وخلق المؤسسات البيئية الصغرى ، بالاشتراك بين وزارة البيئة والتنمية المستديمة والهيئات المعنية بالتمويل والتأهيل والتشغيل، وهو ما خلق آلاف فرص العمل في مجالات رفع النفايات , تدويرها , ادارة المساحات الخضراء وتجميل المدن. و قد مكّنت منظومة “إيكولف” من فسح المجال لفتح 318 ” نقطة تجميع” منها 117 مؤسّسة أحدثت في إطار منظومة “شابّ” و95 نقطة تجميع أحدثت من قبل حاملي الشهادات العليا، كما ساهمت هذه الآلية في التّخفيض من نزيف العملة الصعبة حيث تستورد تونس ما يفوق 200 ألف طنّ من “حبيبات” البلاستيك، ومن خلال الرّسكلة وجمع النّفايات البلاستيكية أصبحت بلادنا توفّر تقريبا ربع الكمية مع المساهمة في التصدير واتساع رقعة النبش
اضرار صحية … صراعات مع الشرطة البيئية
كلّما اقتربنا أكثر فأكثر من المصبّات ، كلّما ازدادت المشاهد التي رصدنها أكثر بؤسا وتعاسة حول أناس صارت القمامة مصدر رزقهم الوحيد، أين يتحوّل خطر الموت اختناقا أو تسمّما شرّا لا بدّ منه لاستمرار حياة هؤلاء “البرباشه”. اللذين يعاني أغلبهم من غياب التغطية الصحية والتأمين، وهم معرضون للعديد من المخاطر، جرّاء افتقارهم إلى بدلات وقفازات تحميهم، وحقن تقييهم خطر انتقال الفيروسات والأمراض التي يتعرضون لمخاطرها من المزابل والقمامات .
حيث يعرضون حياتهم لجميع أنواع الكوارث على غرار الانفجار والتسمم الحاد والاختناق بالغازات السامّة وغيرها
من التهديدات …
أحد البرباشة ويدعى صالح اليعقوبي كهل في عقده الخامس، يتّقد حيوية ونشاطاً وحماسة رغم مشاق المهنة ، حدثنا عن أهمية هذه النفايات في حياته ، حيث اعتبرها المصدر الرئيس للقوت وتوفير للقمة العيش … لكنّ الانخراط في عالم “البرباشة” خلّف له أضرارا صحية فادحة .
لكن بخلاف المخاطر الصحية التي تواجه هذه الفئة لطبيعة عملها الذي يجبرها على استنشاق الروائح الكريهة ، يعيش “البرباشة ” صراعا يوميا مع رجال الشرطة البيئية ، و الذين يعتبرون ان ما يقوم به هؤلاء مخالفة بيئية وعملا عشوائيا، لا سيما بعد تلقيهم شكاوى من سكان الأحياء بسبب نبش ” البرباشة ” وتعمدهم فتح أكياس القمامة ونبشها، وقلبهم لحاويات الفضلات , مما يجعلها مرتعا للقطط والكلاب السائبة والحشرات ، ويزيد في مشاكل التلوث البيئي ، فيكون مصير بعضهم التعرض لغرامات مالية تزيد من معاناتهم.
” البرباشة ” الحلقة الأضعف والأكثر فقرا …
ينشط بسوق جمع ومعالجة النفايات ما يزيد عن 15000 الف عامل، يمثل “البرباشة” أغلبهم و لكن رغم أنهم يمثلون الاغلبية, إلا أنهم الحلقة الأضعف والأكثر فقرا , فهم يعانون من المهانة يوميا بين أكوام الفضلات ولا يجني بالنهاية إلا النزر القليل , فحين يغنم الوسطاء أرباحا كبيرة ، اذ تكاثرت محالات ونقاط التجميع الخاصة في الأحياء بعد الثورة وهي تحقّق أرباحها من الوساطة بين “البرباشة” ومصانع البلاستيك التي تعتبر الرابح الأكبر، إذ تجد يدا عاملة هشّة تضمن لها تجميع المواد الأولية التي تحتاجها في صناعتها عبر وسيط غير مباشر، دون أن تلتزم معها برابطة شغليه تعاقدية وقانونية
و في سؤالنا للباحث في علم الاجتماع عبد الباسط الفقيه عن تفاقم ظاهرة “البرباشة” واتساع رقعة نشاطهم يقول “من إفرازات الثورة كان انتشار الأنشطة الاقتصادية غير النظامية في شوارع تونس وأحيائها الشعبية”. وحسب الفقه ، لا يمثل
” البرباش سوى فاعل صغير ضمن حقل اقتصادي واسع غير أنه الفاعل الأدنى مكانة والأقل استفادة من الموارد المتداولة ضمنه، ذلك أنه يمارس نشاطا اقتصاديا شاقا مقابل مكسب مادي زهيد.”
ويضيف الفقيه أنه استنادا إلى دراسة أجريت سابقا حول هذه الظاهرة فإن “البرباش الواحد يجمع يوميا ما معدله مئة قارورة بلاستيكية ، أي ما يساوي 6 دنانير (أقل من 3 دولارات) عند البيع لدكان التجميع، لكن أصحاب محال التجميع يجنون في المقابل المئات من الدنانير أسبوعيا، دون عناء تقريبا.”
لكن ر غم المحاولات لتنظيم عمل هذه الفئة المهمشة داخل المجتمع وتقنين نشاطها عبر إنشاء أول جمعية “للبرباشة” بجهة حي التضامن ، و هي تعتبر واحدة من بين جمعيات أخرى تكونت حديثاً، أغلب منخرطيها من أهل المهنة، وهدفها هيكلة مهنة “البرباشة” والنظر في المشاغل والصعوبات التي يعاني منها هؤلاء. كما تقديم النصائح لهم عن كيفية جمع النفايات بطريقة آمنة ودون مخاطر. فإن أغلبهم يعمل بشكل عشوائي ولا تعنيه مثل هذه الجمعيات في ظل غلاء المعيشة وانسداد آفاق الشغل .
من الواضح أن النماذج الإنسانية هي الخاسر الأكبر في قطاع رسكلة النفايات البلاستيكية فرغم المجهود الكبير لهؤلاء الباحثين عن قوة يومهم في حماية محيطنا إلا أن بارونات الرسكلة يسيطرون على حياتهم بوضعهم على الكفة البخسة في الميزان ….