الفنان العراقي وفاء بلال ومبادرة ملهمة بكندا
شهد العالم العربي على مر العصور تعرض آثاره وأبنيته التاريخية والصروح المعمارية والمكتبات لأضرار ودمار كان بعضه ناتج عن حروب وكان بعضه الآخر محاولة لتدمير الموروث الثقافي بكل مكنوناته ومعالمه الغنية بدءاً من التراث الإنساني والمعماري المتوارث من الأجداد وانتهاء بالمكتبات ودور العلم والمعرفة، نظراً لما يجسده هذا الموروث من قوة متأصلة وذاكرة جماعية وهوية اجتماعية تذكر أفراد المجتمع بمكانتهم العريقة وتاريخهم الثري، وحقوقهم المتجذرة في المكان. قدمت الصراعات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط، وبشكل خاص في العراق، أمثلة كثيرة حول الضرر الكبير الذي يمكن أن يلحق بالتراث الثقافي نتيجة للحروب، وتأثير هذا الضرر على التراث الإنساني بشكل عام. ففي عام 2003، فقدت كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد مكتبتها بالكامل بسبب اللصوص والمخربين الذين أشعلوا النار في مجموعتها الثرية من الكتب والمخطوطات أثناء غزو العراق. ونتيجة لهذه الكارثة تم تدمير أكثر من 70000 كتاب تعد مجتمعة ثروة لا يستهان بها ضمن الجامعة المنكوبة. اليوم، وبعد مرور خمسة عشر عامًا، لم يتبق لدى الطلاب في الكلية المذكورة غير عدد قليل من الكتب والمراجع التي تم جمعها فيما بعد أو نجت بأعجوبة من المحرقة. في الواقع، لم تكن هذه الحادثة هي الأولى في البلاد، فلدى العراق تاريخ طويل من الحروب والأحداث التي أدت إلى تدمير الكثير من التراث الثقافي في البلاد. فخلال العصر الذهبي للإسلام، في القرن الثالث عشر، وبعد وصول جحافل جيش المغول إلى البلاد، أشعلت الجيوش الغازية النار في جميع مكتبات بغداد، بما في ذلك الصرح الشهير بدار الحكمة. قام الغزاة برمي مجموعة الكتب والمخطوطات التي كانت تزدحم في مكتبة دار الحكمة كاملة في نهر دجلة لإنشاء جسر من الكتب تعبر فوقه الجيوش الغازية. تتحدث الروايات أن الحبر الذي سال في مياه نهر دجلة من الكتب الممزقة أدى إلى تغيير لون النهر لمدة سبعة أيام متتالية (168 ساعة)، ليتم تجريد المكتبة في نهاية المطاف من المعرفة والكتب والمخطوطات التي كانت تحتضنها.
هذه الرواية ألهمت الفنان العراقي «وفاء بلال» لإطلاق مبادرة فريدة في متحف الآغا خان في تورنتو بكندا بعنوان (168:01)، تهدف إلى التصدي للواقع المؤسف الذي وصلت إليه مكتبة كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد، والذي يشكل مثالاً من بين العديد من الأمثلة المشابهة في العراق. يرمز رقم «168» لعدد الساعات التي بقي خلالها حبر الكتب يسيل في مياه نهر دجلة بعد هجوم المغول على المدينة، أما «01» فيرمز إلى بداية عصر جديد للمكتبة في بغداد. مبادرة الفنان العراقي عبارة عن معرض تفاعلي فريد يتضمن سلسلة من الأرفف التي تضم مجموعة من الكتب البيضاء الفارغة تمثل الكتب والمخطوطات التي تم إحراقها وضياعها من المكتبة، في دعوة صريحة للزائرين والمتبرعين والمؤسسات المعنية إلى ضرورة استبدالها بالكتب والعناوين الحقيقية التي تم اقتراحها من قبل أعضاء هيئة التدريس والطلاب في الكلية ضمن قائمة بعنوان «أمنية»، والتي سوف يتم تقديمها في نهاية المطاف إلى مكتبة كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد. ويقدم المشروع للمتبرع نسخة من هذه الكتب البيضاء الفارغة المعروضة على الأرفف بهدف التعبير عن الشكر والتقدير للشخص أو الجهة المتبرعة، وكرمز للفراغ الذي ساعد المتبرع بملئه في المكتبة وتذكيراً بمساهمته القيمة، سواء بتقديم الكتاب الأصلي أو التبرع بالمال الذي سوف يتم استخدامه في إغناء مكتبة الكلية. هذه المبادرة برغم بساطتها تؤكد بوضوح على أهمية التحرك بجدية وإيجابية عوضاً عن الاكتفاء بالوقوف جانباً وإبداء الحزن والأسف على ما وصل إليه الحال في المكان. ولا شك أن أي مبادرة أو خطوة لاستعادة التراث الثقافي المفقود أو تعويضه على أقل تقدير يمكن أن تبعث الأمل في النفوس وتدفع للمزيد من العمل والتحرك بإيجابية للنهوض بالواقع والعودة من جديد. كما تتطلب هذه المبادرة مشاركة واسعة من قبل جميع الأفراد والمؤسسات المعنية أو المهتمة، وهو ما يؤكد عليه الفنان وفاء بلال بالقول: «يجب أن يكون العمل قائمًا على المشاركة ويحتاج إلى نتائج ملموسة، ليس فقط لإشراك الأشخاص الذين يأتون لمشاهدة العرض، بل أيضًا لتقديم الفائدة للناس على الأرض في العراق». على الرغم من استضافة متحف الآغا خان في كندا لهذا المعرض – وهو أحد المتاحف الإسلامية المهمة في العالم والأول من نوعه في القارة الأميركية الذي يكرس مقتنياته ونشاطاته بشكل كامل وحصري للحضارة الإسلامية من الصين إلى إسبانيا – إلا أن هذه ليست المرة الأولى التي ينظم فيها الفنان العراقي مثل هذا المعرض، إذ قام بتنظيم معرض مماثل قبل عامين في مدينة ويندسور في محافظة أونتاريو الكندية. وحتى اليوم، نجح وفاء بلال في جمع عشرات الألوف من الدولارات لصالح المكتبة، ويتطلع في نهاية المطاف إلى استعادة المخزون الكبير من الكتب الذي كان يوجد في المكتبة في أفضل أيامها. يتحدث الفنان وفاء بلال عن الوضع في العراق والدور الذي ينتظر أن يلعبه هذا المشروع المتجدد قائلاً: «هنا، أكوام من الركام تبدو كما لو أنها الصمت المطبق في ظلمات القبر، تعبر هذه الحجارة المبعثرة عن حقيقة أن التدمير الثقافي هو دون شك خسارة مستدامة ومتفاقمة، لأنها تواصل التأثير على كل طالب وتحوله إلى ضحية الافتقار المستمر للمواد التعليمية التي يؤدي فقدانها إلى تضييق الخناق عليه وتحاصره في نقطة الخراب القاتلة». ويضيف الفنان العراقي قائلاً: «على النقيض من ذلك، يواجه زوار المكتبة البيضاء في معرض متحف الآغا خان مساحة من الازدواجية – فهنا نصب تذكاري يشير إلى الخسارة التي تعرضت لها المكتبة بينما يشكل هذا المظهر القاسي والملتزم في الوقت نفسه منصة للتغيير. ولا شك أن هذا التغيير يتخذ أشكالاً متعددة، إذ تم تنشيط المكان، وتحول هذا المعرض من نصب تذكاري عقيم إلى نظام فعال لتبادل وتداول الكتب واستبدال الكتب البيضاء الفارغة بالنصوص الفنية والأكاديمية القيمة».