الزعيم عبد الكريم قاسم .. حياة قصيرة .
لا يتجادل أثنين سويين على وطنية الزعيم قاسم وعفة لسانه وقلبه ونظافة هندامه وبساطة روحه وشجاعته في مواجهة الموت في مبنى الصالحية ببغداد، لكن يتجادلا أثنان على أداء قاسم الحكومي والوظيفي في أدارة مؤسسات الدولة , وتخبطاته في القرارات , ونزعته باتجاه الدكتاتورية والارتجال . في صبيحة ١٤ تموز ١٩٥٨ ثمة عسكر أنقضوا على ثكنات ومحميات النظام الملكي ومؤسساته، ولولا التأييد الجماهيري والشعبي لبيان رقم واحد من أذاعه بغداد في مبنى الصالحية في شوارع بغداد والمدن الأخرى لبقى ذكرى هذا اليوم ضمن دائرة مغامرات الانقلابات العسكرية، يوم دموي دشن به بإبادة العائلة المالكة في قصر الرحاب بعد أن خرجوا من فضاءات غرف نومهم رافعين رايات الاستسلام، أطلق النار عليهم من قبل الضابط عبد الستار العبوسي، ولم ينجو منهم الا الأميرة بديعة أخت الامير عبد الإله وخالة الشاب المغدور الملك فيصل الثاني. تابعت باهتمام طيلة السنوات التي مضت ما كتب حول الزعيم قاسم، فريق وهو المؤيد له . ذهب بعيداً ليجعل من قاسم قديساً , وأخر يجعل منه دكتاتوراً مستبداً. حتى ننصف الرجل والمرحلة والتاريخ في فترة حكمه التي لا تتجاوز الخمسة سنوات مرت بمخاضات عسيرة، أدت ببعضها الى إسقاطات مشوهة، في رأي أول تلك الاسقاطات كانت محكمة المهداوي تجربة فاشلة، عكست وجهاً سلبياً عن أهداف ثورة تموز، وفي بعض المرافعات أنقلبت سلباً على سمعة الثورة ورجالها وخدمة أعداء الثورة , بل ألبت الناس عليها . محاكمة سعيد القزاز وزير داخلية النظام الملكي نموذجاً وهناك نماذج أخرى.
كان عبد الكريم قاسم بقدر وطنيًته سياسياً فاشلاً، تذبذب مواقفه من عدة أحداث ووقائع , كان يفترض أن تكون مواقفه متساوية وبمسافات واحدة تجاه تطورات الاحداث في البلد . الموقف من المقاومة الشعبية، خطابه في كنيسة ( المار يوسف ) عام ١٩٥٩ . الموقف من حركة الشواف في الموصل وقطار السلام، محاكمة أياد سعيد ثابت بعد عفو رئاسي وعودته من المهجر على ضوء أحداث حركة مايس ١٩٤١ ورشيد عالي الكيلاني . إعدام الضباط الاحرار ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري , الذي بدأ يبكي في يومها بمكتبه في وزارة الدفاع حسب شهود مرافقيه . كل تلك الاحداث والتطورات تؤدي بنا الى دكتاتورية عسكرية في أدارة الحكم والتي كان يفترض أن تسلم الى حكم مدني أقصاه لمدة عامين، موقفه المتذبذب وسط التيارات والاحزاب السياسية.
مرة يهادن ويغازل الشيوعيين على حساب البعثيين والقوميين، والشيوعيين كانوا أخلص الناس له ولحكمه دعنا من بعض الهفوات التي ارتكبت في حكمه، وفي الختام هادن البعثيين بالضد من الشيوعيين بل غض النظر عن تحركاتهم ونواياهم رغم تحذيره منهم ومن نواياهم، بالأخير أطاحوا به وبنظامه ودفع الثمن مئات الالاف من الشيوعيين والديمقراطيين، في اللحظات الاخيرة ظل توجسه عالي في الخوف من الشيوعيين، في باب وزارة الدفاع في مشهد درامي تراجيدي أبناء الفقراء وبيوت الصفيح والشيوعيين يطالبوه بالسلاح للدفاع عنه وعن الثورة يتردد رغم أن زعاف الموت يقترب منه وينهي حياته .. كان خائفاً من الشيوعيين لينقلبوا ضده , وليس خوفاً من سفك الدماء .. فالدماء سالت منذ الصباح في شوارع بغداد.
من الملفات التي سارعت للإطاحة به وبحكمه، ملف دولة الكويت والتلويح به لأحقيتها لدولة العراق عام ١٩٦١. قانون رقم ١٨٨ لسنة ١٩٥٩ للأحوال المدنية والمساواة في الإرث وحقوق المرأة مما أرعب الدوائر الرجعية والمتخلفة والحاقدة على منجزات الثورة وتقدمها، فتوة محسن الحكيم نموذجاً (الشيوعية كفر وألحاد) مما أعطى مبرر فقهي وقانوني واجتماعي في محاربة الشيوعية في العراق والتبرير في الممارسات الدموية ضدهم، والدليل ما حدث في يوم ٨ شباط عام ١٩٦٣ في أرض العراق . وقد جرت محاولة فاشلة من مجلس الحكم الانتقالي بعد احتلال العراق للإطاحة بالقانون وتم التصويت على الغائه، لكن بريمر الحاكم المدني الامريكي في العراق أنقذه.
وأيضاً من الملفات التي عجلت بأنهاء حياته وفترة حكمه قانون ٨٠ لعام ١٩٦١ حول تأميم النفط والتضيق على عمل الشركات الاحتكارية النفطية الامبريالية في العراق، علاوة على ذلك الملف الكردي والصراع الدائم والدائر بين الحكومة المركزية والملف الكردي، تاريخ العراق معقد وغائر من الصعوبة أن يكتب بواقعية وشفافية بعيداً عن الانتماءات الحزبية والطائفية والاثنية، منذ الدولة الاموية ومراحل الحكم التي أعقبتها على أرض العراق تاريخاً مغلوطاً بعيداً عن واقعية الاحداث أن نقلت شذرات منه , لكن هذا لا يكفي في تدوين تاريخ كامل . كان لزاماً علينا , نحن الشيوعيين أن نقف بجد ونقد عل تداعيات تلك المرحلة بقراءات واقعية ومتأنية حتى على حساب نقد الذات واستخلاص الدروس . فالبشر خطاؤون .. كما يقول فولتير.