لقد اتسعت رقعة العنف والجريمة في المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة … جرائم اختلفت أسبابها ودوافعها ولكنها تشابهت في مستوى درجة البشاعة والفظاعة، جرائم تجاوزت كل نواميس المجتمع وتقاليده وعكست تغيرا في المبادئ والقيم أثر على سلوك الأفراد بشكل كبير حيث أصبح كل شيء مباح من قتل, سلب , اغتصاب واحتيال، وغيره وكأننا نعيش في مجتمع بلا رادع فحتى القانون لم يعد له ” سلطان” وأصبحنا أمام ” نزيف ” يومي من الجرائم … وعلى الرغم من النجاحات الأمنية والضرب بيد من حديد على أيادي المجرمين فإن النسب في ارتفاع فضلا عن فظاعتها .
وهو ما جعل التونسي يتساءل يومياً لماذا أصبحنا بهذا العنف ؟ هل نحن بالفعل كذلك ولم نكن نعلم ? تساؤلات حيرت المختصين حول أسباب العنف ودوافعه وحول الجهات المسؤولة عن بلوغه هذه الدرجة من البشاعة ? هل هي أسباب تتعلق بمؤسسة الأسرة وأساليب تربية الأبناء أم أنها مرتبطة بحالة من الانفلات الاجتماعي لم تستطع الدولة وقوانينها الجزائية السيطرة عليها وردع مرتكبيها؟
في البداية وقبل الخوض في تفسير الدوافع الإجرامية والسلوكيات المنحرفة تفيد الأرقام الرسمية أن معدل الجريمة في تونس في ارتفاع مستمر ومتواصل ، حيث كشف لنا التقرير السنوي الذي نشرته مؤخرا موسوعة قاعدة البيانات ” ناميبو ” للعام 2017 احتلال تونس في المرتبة العاشرة عربيا من حيث من حيث مؤشر الجريمة والمرتبة 53 دوليا من بين 125 دولة,
الضغط الاجتماعي … الاقتصادي … والاحباط …في طليعة اسباب تفاقم الإجرام
تعددت التحاليل واختلفت في تفسير الدوافع الإجرامية والسلوكيات المنحرفة … حيث يحاول كل اختصاص علمي أن يتناول الظاهرة الإجرامية من وجهة نظره ويقدم لها أسبابا وعللا. فبعضهم يرجع أهم أسباب الجريمة إلى التكوين الفيزيولوجي والهرموني للمجرم والذي يجعل بعض الأفراد مؤهلين لارتكاب الجريمة أكثر من غيرهم… أما علماء النفس فيرون أن الصراعات الذاتية النفسية للفرد هي المؤدية بالأساس إلى الوصول إلى لحظة الانفجار والتي تجعل الفرد قادرا على القيام بأي شكل من أشكال العنف المادي سواء كان عنفا أو قتلا أو انتحارا.
*ضغط اقتصادي واجتماعي
وقد عرف الدكتور عبد الباسط الفقيه مختص في علم الاجتماع الجريمة بكونها “ظاهرة اجتماعية” لا يمكن القضاء عليها، باعتبارها ظاهرة تتعلق بالمجتمع وبمختلف مكوناته وخصائصه، ولذلك فهي تمثل جزءا منه . و اعتبر محدثنا ان أسباب الجريمة عديدة ومتنوعة، ” ان ارتفاع نسبة الجرائم بشكل عام له علاقة حتمية بالحراك الذي تشهده البلاد على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية”.
اذ اعتبر الفقيه ان جيل اليوم برمته يجد نفسه ضحية ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية هشة وخارج منظومات الدراسة والحماية والاقتصاد ، فليس من الغريب إذن أن يجد نفسه إما ضحية احدى وضعيات التهديد أو أحد المتسببين فيها. خاصة بعد انتشار ظواهر يلفها الصمت والإنكار والنسيان واللامبالاة وكأنها تحدث في كوكب آخر و لا تكاد تخلو منها أي جهة من جهات البلاد، وهى ظاهرة الادمان وخاصة على المخدرات ذات المفعول القوي والمدمر. فتحولت من مجرد آفة أو ظاهرة إلى مرض اجتماعي وإلى جزء من ثقافة جديدة ما فتئت تتوسع وتنتشر وهي ثقافة الموت والقتل، قتل الجسد وقتل الوعي وقتل النفس وقتل الآخر. مخدرات مرتبطة بشبكات جريمة من داخل الحدود وخارجها تخلف آثارا أشبه بالموت السريري أو الدخول في حالات حادة من الغيبوبة وفقدان الصلة بالحياة إلى درجة يتحول فيها المستهلك من جسد إلى جثة ومن انسان إلى وحش كاسر يمكن أن يرتكب أبشع الجرائم و اشنعها. بهذا المنطق تحولت المواد المخدرة اليوم إلى خطر حقيقي يهدد الأمن الصحي والنفسي لمستهلكيها والأمن الاجتماعي لمجتمع برمته وربما هذا ما يفسر ارتفاع حجم الجرائم كيفا وكما واتخاذها لمنحى استعراضي يصل إلى حد التمثيل بالجثث .
هذا إضافة إلى الوضعية العامة للبلاد حيث اندثار الطبقة الوسطى في تونس خاصة بعد الثورة اذ أصبحنا لا نجد سوى طبقتين وهما الأغنياء أو الفقراء فقط وهذا الفارق الشاسع بينهما يخلق الضغينة والإحساس بالظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي يتولد عنه بصفة آلية العنف والرغبة في الانتقام ويخلق الغضب . وكذلك الوضعية الشخصية للأفراد الذين يرتكبون هذه الجرائم حيث تغيرت مفهوم العائلة وتغيرت القيم داخلها كثيرا ولم يعد هناك تسلسل هرمي فيها. فدور الأب كرب للعائلة تغير و لم يعد واضحا كما كان . فالسلطة التي كانت له من قبل باعتباره مسير للعائلة مما جعله يكون الوازع الذي يمنع الطفل من ارتكاب اي فعل مشين من الناحية الاقتصادية اندثرت فبغض النظر عن المستوى الاجتماعي والاقتصادي للعائلة .
*دور الإعلام
واعتبر محدثنا أن هذه الأفعال الإجرامية ترجع بالأساس إلى استسهال العنف داخل مجتمعاتنا، اذ تمارسه عدة وسائل مؤثرة في المجتمع، مثل الأشكال الفنية، أو وسائل الإعلام، وغيرها. دون وعي منها، عنف على مستوى الصورة أو على المستوى اللفظي أو على مستوى الأفكار وتحويله إلى مشهد يومي اعتيادي يراه الجميع على شاشات التلفاز وغيرها من وسائل التواصل. فعندما يتم الإفراط في الحديث عن المنتحر حرقا على أنه بطل مظلوم مسكين تتحدث عنه البلاتوهات لأيام عدة فهذا من شأنه أن يعزز لدى الشاب اليائس فكرة الخلاص عبر تكرار هذا المشهد الذي صـُوّر له أنه كرنفالي .
*الشعور بعدم تطبيق القانون وراء ارتفاع الجريمة
بدورها، تقول المحامية دورة الهاني إنّ ارتفاع نسبة الجريمة في تونس لا يعود الى غياب الردع فالقانون التونسي يتضمن ما يكفي من الفصول الردعية ويعاقب بالسجن وبعقوبات شديدة تصل إلى الإعدام في بعض الجرائم، بل يعود إلى الشعور السائد لدى كثيرين بأنّ القانون لا يطبق، وأنّ في الإمكان الإفلات من العقاب، وبالتالي يوحي أنّ السلطة ضعيفة. يضيف أنّ وجود مثل هذا الشعور لدى العموم يخلق نوعاً من الاستهتار بالجريمة التي أصبحت ترتكب بكلّ سهولة وبساطة، مبينة أنّ “هناك جرائم بشعة ترتكب لأسباب بسيطة، فأحياناً ومن أجل مبلغ مالي بسيط قد يقتل شخص، وبهدف سلب هاتف جوال قد تغتصب النساء”. توضح الهاني أنّ انتشار المخدرات والممنوعات ساهما أيضاً في ارتفاع نسبة الجريمة، وبالتالي فإن الغياب أو الضعف في الردع والصرامة على مستوى النصوص القانونية، وتطبيقها وتنفيذها، يتطلب الحرص المضاعف من المكلفين بتنفيذ القوانين من جهة والبحث عن سبل أخرى مثل النشاط الثقافي والترفيهي والرياضي لامتصاص الضغط المسلط على البعض من جهة أخرى وذلك للقضاء على ظاهرة انتشار الجريمة و اثرها السلبية على المجتمع
آثار الجرائم على المجتمع
ان الزحف المتنامي للجريمة من الشارع الى الاسرة لم يعد مجرد خبر ورقم وقصة في سجلات المحاكم و صفحات الجرائد. بل أصبح ناقوس خطر وجب الانتباه اليه و اخذه بالدراسة والبحث لما له من انعكاسات وتأثيرات سلبية على الافراد والمجتمع. حيث أثبتت الملاحظات العلمية والدراسات الاجتماعية والنفسية أن مشاهدة الجرائم يدمر البنية النفسية الهشة للفرد ويغير حتى إيقاع حياته . وتتراوح ردود فعل الإنسان تجاه ذلك بين الخوف و الانسحاب والعزلة والانطواء والاكتئاب والتوتر والعصبية … كل حسب تركيبته وقدرته على التحمل ونوعية محيطه الأسري والاجتماعي. كما يحدث أن تتغير سلوكاته وعاداته الحياتية وظهور أعراض العدوان والعنف والتمرد كتعبير عن عدم السواء والتوازن أو كنوع من المحاكاة لصور وثقافة الفعل الإجرامي .
ومن الأسباب التي تنذر بتفشي العنف في مجتمعنا مستقبلا وبخلق جيل عنيف غير قابل للسيطرة والتحكم أن تونس تحتل المراتب الأولى عالميا وعربيا في عدد مرتادي السجون .
حلول مقاومة الجريمة
ومن أجل تطويق هذه الظواهر الاجرامية لابد من التفكير في إصلاح عميق نفسي واجتماعي وقانوني للجريمة والعنف في تونس. و إيجاد أجهزة متطورة للرقابة ذات طابع رسمي بما يجعل الأفراد يحافظون على المضي قدما في الطريق السوي
و حسب تقديرات عديد الأخصائيين النفسيين تكمن الحلول في الاحاطة النفسية بالمجرمين أثناء وبعد فترة عقوبتهم لإصلاح ما يمكن اصلاحه باعتبار أنهم أناس كغيرهم قبل أن يتحولوا الى مجرمين
وحسب المختصين في علم الاجتماع وعلم النفس فان مساهمة الكهول من أولياء ومربين تعتبر عملية أساسية في حماية الأطفال من الآثار النفسية للجريمة أو على الأقل التخفيف منها. ويمكن أن تأخذ هذه المساهمة شكلين أساسيين. أولا التحكم في السلوك وردود الفعل ومشاعر الخوف والفزع والتأثر تجاه الأحداث والأخبار العنيفة والاجرامية لأنها حين تحدث لدى الكهول يتبناها الأطفال لأنهم يرون بعيون الكهول وليس بعيونهم لأن مداركهم ومعارفهم وخبراتهم لا تسمح لهم باستيعاب هذه الصدمات وهذه الحقائق وفي ذلك خطر حقيقي عليهم. أما الاستراتيجية الثانية فتتمثل في الحوار معهم ومناقشتهم بما يتماشى مع سنهم وقدراتهم بما يجعلهم يدركون الحقائق من جهة ويتخلصون من مشاعر الخوف والرعب والتوتر من جهة اخرى . .
المسؤولية المجتمعية
تتراوح المسؤولية المجتمعية بين الدولة والإعلام والمجتمع المدني والأسرة. فعلى الدولة سن القوانين اللازمة لتنظيم القطاعات التابعة لها عبر توفير الخدمات النفسية والاجتماعية اللازمة بحيث تصبح هذه الخدمات قارة ومتوفرة لمستحقيها. كما يلعب الاعلام دورا أساسيا سواء باحترام اخلاقيات المهنة بإجراءات وشعارات وإعلانات معينة متعارف عليها عالميا أو عبر تقديم المعارف والثقافة السيكولوجية اللازمة … كما أن للمجتمع المدني دورا مهما في هذه العملية يتراوح بين رقابة الدولة والإعلام وتحفيزهم على أداء دورهم وكذلك تأطير الافراد وتربيتهم على ثقافة المواطنة والمشاركة وتحمل المسؤولية بما يعزز حصانتهم النفسية.
إصلاح التعليم
يجب إعادة نوادي الأدب والشعر في مدارسنا ونوادي الموسيقى والرقص الجماعي والفنون المتنوعة وإصلاح المضامين القيمية للبرامج التعليمية التي تفسح مجالا للصداقة ولحب الأب وحب الجدة والجد والتعاون الأسري ومساعدة الفقير والرأفة بالأرملة.
و يقول الدكتور عماد الرقيق المختص في علم النفس إنه من واجب المجتمع المدني والمختصين والإعلام والسياسيين وبعض الطوائف المتناحرة الآن على السلطة وغيرها من المطامح السياسية والتي تستبيح كل الوسائل في سبيل الوصول إلى أغراضهم ومصالحهم السياسية من خلال بث الفتن والبلبلة في صفوف أفراد المجتمع التفطن لهذه المخاطر المحدقة بجيل المستقبل من التونسيين والعمل على ايقاف نزيف العنف والجريمة قبل فوات الأوان وذلك بالابتعاد عن اتخاذ وسائل غير أخلاقية للوصول إلى أهداف سياسية بالإضافة إلى ذلك يبقى دور الأولياء الأهم حسب ما يراه الدكتور عماد الرقيق في حماية جيل المستقبل من الانزلاق نحو العنف والفوضى والخروج عن القانون وذلك بتفسير بعض مظاهر العنف ووضعها في اطارها .