قراءة في كتاب محطات من حياة الدكتور خليل عبد العزيز
توثيق أحداث مدينة الموصل بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 وما جرى بعدها من حوادث وتصادم بين أطراف الحركة السياسية لا يخص مدينة الموصل وحدها، إنما يشكل جزءا من الذاكرة التاريخية للعراق الحديث، وهذا التوثيق يكون رصينا ومتماسكا إذا كان من شخص داخل تلك الأحداث وطرفا في حراكها، ويمكن أن تشكل وجهة نظر كل شخص جزءا من الحقيقة أو المساهمة في إكمال صورتها، وحين يكتب الدكتور خليل عبد العزيز سردا هو بالحقيقة جزء من سيرته الشخصية، ويسلط الضوء على محطات مهمة من حياته، نشعر أننا نستعيد رسم صورة الأحداث من خلال شهادة شاهد قرر أن يوثق شهادته بعد رحلة تخللتها المرارة والألم والإصرار والاغتراب والتمسك بالقيم والمبادئ التي تسيطر على عقله وروحه.
فالدكتور خليل عبد العزيز ابن مدينة الموصل وضع حياته فوق كفيه منذ بواكير شبابه، ونذر أيامه للمجهول ضمن ارتباطه بالحزب الشيوعي متنقلا بين بيوت سرية تابعة للحزب أو تنقله بين بلدات داخل أو خارج العراق، وفي مواقف وطنية يتحمل جراءها ضياع مستقبله وابتعاده عن أهله وعائلته وعذابات التنكيل بالموقوفين من الوطنيين أو خلال تحمله عذاب السجن والنفي في مدن حدودية بعيدة، أو من خلال زجه قسرا في الخدمة العسكرية جنديا مكلفا تحت وطأة العقاب السياسي وليس خدمة الوطن، غادر مدينته الموصل تاركا خلفه أثرا طيبا وتاريخا ناصعا، أراد البعض أن يشوه هذا التأريخ لينسجم مع اتهامات السلطات التي أرادته كبش فداء لتلك ألأحداث، فلم تقدر وانتصر عليها بثقته بنفسه وتاريخه الجدير بالتقدير، غير انه انفق عمره وهو مرتحل ضمن محطات متعددة ومتنوعة من حياته، وربما انطلت تلك الاتهامات التي طالت العديد من أبناء الموصل ومن جميع الأطراف على الأجيال اللاحقة والتي فبركها الإعلام والتناحر الحزبي والسياسي في حينه إلا أن الحقيقة تبقى قائمة لايمكن لها أن تموت.
كتاب محطات من حياتي للدكتور خليل عبد العزيز الصادر عن دار سطور للنشر والتوزيع في بغداد 2018 يشكل شهادة مضيئة لجانب من جوانب العمل السياسي ومساهمة فعالة في النضال الوطني، وطريقة السرد التي تمكن فيها الكاتب والصحفي الأستاذ فرات المحسن ان يخرج من الأطر التقليدية للمذكرات ليغور في أعماق تاريخ الدكتور خليل عبد العزيز الذي كان صامتا كل تلك السنوات بعد عودته من موسكو إلى مغتربه الأخير في العاصمة السويدية.
وضمن فورة الحركة الوطنية في الخمسينات من القرن الماضي ونشاط تلك الحركة تبدأ بواكير الحراك السياسي لخليل عبد العزيز ضمن حراك جيل كامل ممن كان يحلم بوطن متحرر وشعب يضمن الخبز والكرامة، فبدأ باكورة عمله عبر ارتباطه بالتنظيم الطلابي (إتحاد الطلبة العراقي العام) ليشكل مع كل من حازم جميل وصلاح إسماعيل فرعا لهذا الاتحاد في مدينة الموصل، وتتطور تلك العلاقة ليرتبط تنظيميا بالحزب الشيوعي العراقي منذ العام 1951 ثم ينال عضوية هذا الحزب العريق في العام 1952.
ومنذ بداية هذه السنوات يسرد الدكتور خليل حركته وعلاقاته السياسية في الموصل ثم صدور أوامر بالقبض عليه وعلى عدد من رفاقه نتيجة حراكهم ومطالباتهم بالاستقلال وبسقوط الأحلاف التي تكبل العراق ولذلك تم انتقاله إلى بغداد العاصمة.
ومابين موقف التحقيقات الجنائية وبين الحكم عليه من محكمة جزاء بغداد بالسجن لمدة سنة والإبعاد سنة أخرى، وبعد انقضاء فترة السجن و فترة الإبعاد في العام 1957 تم سوقه إلى الخدمة العسكرية التي قضاها في منطقة الشعيبة بالبصرة التي بقي فيها حتى قيام ثورة 14 تموز 58، ويفترض أن مثل هذه الثورة تنصف السياسيين الذين تضرروا جراء عملهم السياسي وتمت معاقبتهم نتيجة مطالباتهم بالتغيير الثوري، فباتوا ينتظرون من ينصفهم إلا أن الدكتور خليل يسرد حادثة طريفة في الصفحة (31-32-33) حول لقاء الجنود الذين كانوا طلبة وتم فصلهم بسبب انتمائهم للحزب الشيوعي وتم سوقهم للخدمة العسكرية، وردة فعل عبد السلام محمد عارف التي تجسد عقليته وشخصيته وثقافته، وفي تلك الشتائم والعبارات التي لا تليق بشخص من شخوص قادة الثورة أن يقولها، كما في إشارة لشخصية عبد السلام محمد عارف في مخاطبته جماهير البصرة بقوله : يا أهل البصرة يامن صنعتم النومي بصرة، حيث تعج الناس بالضحك على كلامه.
واللافت للنظر أن تخلص السيد خليل من الخدمة العسكرية لم يكن موقفا منصفا أو مكافأة من قبل السلطة الجديدة إنما كان بسبب دفع رفاقه في الحزب البدل النقدي حيث تم جمع المبلغ المطلوب للبدل، ليعود إلى مدينة الموصل في العام 1959 بأمر من الحزب الشيوعي عاملا ضمن تنظيم اتحاد الطلبة العام.
ولعل أحداث العام 59 في الموصل من الأحداث التي غلفتها المرارة وشابها الألم ولونها الدم وبغض النظر عن الأسباب والنتائج فقد كنا بأمس الحاجة إلى سرد تفصيلي لحقيقة ما جرى، أسماء كثيرة مرت على تلك الأحداث لم تسرد التفصيل، وتعددت القصص والكتابات التي تعبر عن وجهات نظر مختلفة، وضمن تلك الأحداث يتم الحكم على الدكتور خليل بالإعدام غيابيا ويتم تهريبه خارج العراق من قبل الحزب الشيوعي العراقي بجواز سفر مزور باسم (يوسف إلياس يوسف) ، لتبدأ رحلة أخرى ومحطات مختلفة في حياة هذا الرجل.
رحلة بغداد – بيروت – فيينا – موسكو تشعرك بالإثارة، وأنت تتابع تلك الصور والأحداث التي يسردها الكاتب بصدق من عاشها وبدقة، كما يمر بتلك الصور تلك اللقاءات التي أجراها مع قيادات رفيعة في الحزب الشيوعي العراقي خلال وجوده في موسكو، ومن ثم إصراره على مواصلة الدراسة في كلية الصحافة بالرغم من جميع العقبات والظروف التي واجهها بشجاعة وإصرار، مرورا بدراسة الماجستير والدكتوراه، وسفره إلى القاهرة لاستكمال متطلبات شهادة الدكتوراه.
ولعل التشخيص الجريء والصادق النابع من ملامسة واقع الحياة في الاتحاد السوفيتي والبعض من قيادات الحزب الشيوعي السوفيتي والكوادر المتقدمة من قبل الدكتور خليل عبد العزيز يشكل محطة مهمة وجديرة بالتأني في التحليل والتدقيق، بالنظر لكونه شاهدا وقريبا من أحداث ومواقف شخصيات مؤثرة ومهمة في مسيرة السلطة والحزب، كما انه يسرد وبشكل واضح وصريح الخلافات التي كانت تدور في الأروقة الداخلية ضمن تشكيلات الحزب والحكومة وأيضا ضمن المعهد العلمي الذي يستكمل فيه دراسته لنيل الدكتوراه.
كما يسترسل ضمن محطة أخرى غاية في الأهمية عن علاقته بمعهد الاستشراق السوفيتي، وفي تعيينه كباحث علمي في أهم صرح علمي من المؤسسات العلمية السوفيتية، يقول الدكتور خليل في الصفحة (63) من الكتاب : ((كان عملي في معهد الاستشراق فرصة ذهبية لي ولم تكن تتوفر لغيري في ذلك الوقت، ولذا سعدت أيَّما سعادة ودخلت في لجة العمل بكل طاقة كنت املكها، ولا أنكر بأني استطعت من خلال المعهد بناء وتوطيد علاقاتي بشخصيات حزبية ودبلوماسية سوفيتية وكذلك شخصيات أخرى من مختلف البلدان، وقد سافرت وقابلت الكثير من رؤوساء وملوك ورجال سياسة وحكام عرب وغيرهم، كذلك أتاح لي معهد الاستشراق الاطلاع على خبايا ومكنونات سياسية ودبلوماسية واسعة وكثيرة، كنت ومازلت احملها في خاطري وكأنها حدثت البارحة. لذا أود أن أدونها ليطلع عليها الناس. وأجد في نفسي اليوم كشاهد حقيقي على تلك الوقائع ما يدفعني لوضعها أمام رفاقي وأصدقائي بكل دقة وصدق وأمانة في محاولة لأن ينصف التاريخ الجميع ومنهم أنا.))
محطات عديدة ومتنوعة بين مصر واثيوبيا واليمن الجنوبية والكويت يسرد فيها طبيعة عمله واللقاءات المهمة التي يجريها ووجهات نظره في تلك الشخصيات التي يحاورها، غير أن تقييمه لشخصية بريماكوف جديرة بالقراءة، ويخصص جزءا من تلك المحطات في حياته لجملة أحاديث وحوار مع عبد الفتاح إسماعيل سكرتير الحزب الاشتراكي اليمني ويوضح طبيعة العلاقات والخلافات بين القادة اليمنيين، ويختتم تلك الأوراق بتوجهه إلى السويد وحصوله على الإقامة في العام 1991.
وضمن أوراق الدكتور خليل يسرد تلك اللقاءات التي أجراها مع عدد من الملوك والرؤوساء والشخصيات السياسية منها على سبيل المثال الملك الأردني الحسين بن طلال والرئيس السوري حافظ الأسد والزعيم الغاني كوامي نكروما والرئيس الصومالي محمد سياد بري والجنرال مصطفى البارزاني، وعلاقته بشخصيات تعمل في السفارة العراقية بموسكو مثل شاذل طاقة و فاضل البراك خلال عمله كمعاون للملحق العسكري في السفارة العراقية بموسكو، وصالح مهدي عماش خلال عمله كسفير للعراق في موسكو، وقصته المثيرة والمهمة في عودته للعراق ومقابلة احمد حسن البكر رئيس الجمهورية بالرغم من قرار الإعدام الذي كان ساريا بحقه والذي الغي بعد ذلك بناء على طلب الجانب السوفيتي، والحوار الشيق الذي جرى بينهما، وفي طلبه زيارة والدته في مدينة الموصل التي كان قد تركها منذ العام 59، ولقاء مثير مع وزير الثقافة والخارجية لاحقا طارق عزيز.
ما يذكره السيد خليل عن واقع الحياة السياسية في الاتحاد السوفيتي خلال تلك الفترة من سيطرة جهاز الأمن والمخابرات على جهاز الحزب والدولة والفساد الذي ينخر هذه الأجهزة، مما قوض التجربة الاشتراكية وأبعدها عن مسارها الصحيح، وتحويل النظام الاشتراكي الى نظام الحزب الواحد في ظل تحكم تلك الأجهزة، والممارسات السلبية والخلافات العميقة بين تلك الأطراف التي يفترض أنها تنسجم عمليا من خلال توحد إيمانها الفكري ولو اختلفت في الأجزاء والعمل، مما خلق تلك الشروخ والتصدعات في جدار التجربة الاشتراكية، ويظهر ذلك جليا في الحوار الذي أجراه معه الكاتب فرات المحسن عن السياسة السوفيتية وعن الأحزاب الشيوعية العربية، ثم عن الدراسة في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية، وعن علاقته وتحليله شخصية الكاتب محمد حسنين هيكل، وأخيرا عن الأسباب الحقيقية لانهيار الاتحاد السوفيتي من وجهة نظر قريبة من جميع الأحداث في القرن المنصرم.
في تقديرنا كان الدكتور خليل عبد العزيز دقيقا وصادقا في التشخيص والتحليل وفي نقل الصور، وتلك المحطات التي شكلت أيامه وتأريخه، فكان موفقا وأمينا في تذكره لتلك الأحداث.
كنت أتمنى أن لا يكون غلاف الكتاب بالشكل الذي كان عليه، كما أن تضمين الغلاف عبارات (سجون.. اغتراب.. نضال) لا مبرر لها مع وجود رصانة في العنوان الرئيس (محطات من حياتي) مع بعض الأخطاء الطباعية التي ربما تتم ملاحظتها في الطبعة الثانية من الكتاب…