البرازيل بين ضفتي العرب و«إسرائيل»
ما إن أعلن فوز الرئيس جاير بولسونارو في الانتخابات البرازيلية التي جرت في 29 (أكتوبر) تشرين الأول 2018 حتى قرّر نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، وهو القرار الذي سبقه إليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حين نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في 14 مايو /أيار 2018 اعترافاً منه بأنها عاصمة لدولة «إسرائيل»، فاتحاً الباب لمسلسل الاعتراف، وهو ما شجّع بعض من ينتظر اتخاذ مثل هذه الخطوة، لكنه كان يخشى ردود فعل عربية وإسلامية.
وكانت جواتيمالا قد قرّرت نقل سفارتها إلى القدس بعد يومين من قرار الرئيس الأمريكي، وتبعتها الباراجواي في خطوة مماثلة في سبتمبر/أيلول 2018، وإن ظلّت مترددة وكذلك هندوراس التي صادق برلمانها على نقل السفارة، لكن الإعلان لم يتم رسمياً، كما أن رئيس البرلمان الروماني عبّر عن رأي مماثل، إلّا أن المعارضة أتت من رئيس البلاد، كما قررت تشيكيا نقل سفارتها في 12 أيلول/ سبتمبر أيضاً.
فهل هذه خطوات منفردة ومعزولة أم أنها حلقات متواصلة، بحيث يصبح الأمر الواقع واقعاً، ويتم التطبيع الدبلوماسي والدولي بصورة هادئة وناعمة دون ضجة تُذكر؟ علماً بأن هذه القرارات والإجراءات القاضية بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة «إسرائيل» تعتبر مخالفة صريحة وواضحة لقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ولاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها 1977 وانتهاكاً سافراً لما يسمى ب«الشرعية الدولية»، لاسيّما أن المدينة، وفقاً لقرارات مجلس الأمن الدولي، لا تزال محتلة، وخصوصاً قسمها الشرقي منذ العام 1967.
وحين قرر الكنيست «الإسرائيلي» ضمّها في العام 1980 كان قرار مجلس الأمن الدولي رقم 478 واضحاً وصريحاً بأن إجراء «إسرائيل» يعتبر باطلاً ولاغياً، علماً بأن مجلس الأمن منذ العام 1967 دعا إلى انسحاب «إسرائيل» من جميع الأراضي العربية المحتلة (بعد العدوان)، وفقاً لقراري مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967 و338 لعام 1973 ولم يعترف بأي نتائج قامت على أساس استخدام القوة واحتلال الأراضي. وكان الاحتلال «الإسرائيلي» منذ العام 1967، قد باشر بإجراء تغييرات بنيوية وإدارية وقانونية لتحويلها بالتدريج إلى جزء من «إسرائيل».
ولهذا فإن خطوة رئيس البرازيل الجديد والحكومات التي اتخذت خطوات مماثلة، تعتبر تجاوزاً فظاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وستؤدي إلى تفاقم الأوضاع سوءاً، حين يتم تشجيع المعتدي على الاحتفاظ بالأراضي التي احتلها، بل منحه الشرعية لاحتلاله، وهو ما سيعقّد الوصول إلى حل سلمي وعادل.
وحتى الآن ليس هناك ردود فعل جادة وحازمة، لا من جامعة الدول العربية ولا من منظمة التعاون الإسلامي أو من بعض الدول فرادى، فإن ما صدر يعتبر دون الحد الأدنى من المستوى المطلوب، علماً بأن العالم الإسلامي الذي ينتمي إليه العرب بغالبيتهم الساحقة يزيد على مليار ونصف المليار إنسان، وهناك مجالات ودوائر مختلفة يمكن التحرّك فيها لمنع الدول والحكومات من التمادي في قرارها بنقل سفاراتها إلى القدس، لاسيّما في المجال الاقتصادي بدءاً من النفط والعلاقات الاقتصادية والتجارية إلى المجالات الأخرى، كما أن المجال القانوني مهم جداً، وعلى سبيل المثال يمكن الذهاب إلى محكمة العدل الدولية لإصدار رأي استشاري بشأن الإجراء الذي أقدمت عليه هذه البلدان، وغالباً ما كان للضغط الدبلوماسي والسياسي والإعلامي تأثيره، خصوصاً حين تكون البلدان العربية موحّدة، كما يمكن التحرك لتنشيط نظام المقاطعة على المستوى العالمي في الوسط الفني والإعلامي والتجاري والأكاديمي وغيرها، ونعلم كم هي مؤثرة المقاطعة الأكاديمية الأوروبية ضد «إسرائيل» والمعروفة Baycott BDS.
إن موازين القوى الدولية تحتاج إلى جهد طويل ومثابر لمعالجة الاختلال الحاصل فيه، خصوصاً في ظلّ تصدّع المواقف العربية، ومواقف بعض القوى الصديقة في أوروبا وإفريقيا وآسيا، حيث قام بعضها بنقل رحيله من ضفة الصداقة مع العرب إلى ضفة الصداقة مع «إسرائيل» التي منحها امتياز «الدولة الأكثر رعاية». في حين كان قد قطع العلاقات الدبلوماسية معها منذ العام 1967 وحتى نهاية الثمانينات.
ويتطلّب الأمر ضرورة تحقيق وحدة وطنية فلسطينية والانفتاح على العالم العربي والإسلامي بمواقف موحدة، ليتخذ الأخير إجراءات حازمة إزاء نقل السفارات الذي يمثّل تطوّراً خطراً. ويحتاج ذلك إلى الضغط على الحكومات وتنشيط الحركة الشعبية والرأي العام العربي والإسلامي ليدرك خطورة هذا الوضع، لاسيّما أنه يترافق مع ما يسمى «قانون القومية» الذي يمثّل إعلاناً مسبقاً عن طرد أكثر من 20% من سكان فلسطين الأصليين الموجودين حالياً في الأراضي المحتلة سنة 1948.
ولا بد من التوقّع أنه بدون ردود فعل حازمة، فإن الاعترافات بالقدس المحتلة «عاصمة» مزعومة ل«إسرائيل» ستتوالى، خصوصاً حين يكون العرب ضعفاء وغير موحّدين ومواقفهم متناقضة، وسنرى تسابقاً حد التهافت على ذلك.