المتخيّل والواقعي في تجنيد الإرهابيين
حين عرفت أن كمبرلي مينرز عارضة الأزياء البريطانية انضمت إلى «داعش»، أصبتُ بالدهشة بل والحيرة؛ وذلك لسببين، الأول – ما الذي يجمع الفنانة البريطانية الجميلة بالإرهاب و«داعش» نموذجاً لها، والأمر ليس حادثة واحدة عابرة، بل كان لجيش «داعش» الإرهابي، علاقات مع آلاف النساء، إضافة إلى الرجال الذين ينتمون إلى ثقافات متناقضة مع «داعش»؟ والثاني – كيف يمكن تجنيد «داعش» للإرهابيين؟ أي ما هي الوسائل التي يستخدمها للوصول إليهم وإقناعهم، بل لغسل أدمغتهم، بحيث يصبحون أداة طيّعة بيده، حيث يأمرهم بتفجير أنفسهم وقتل العشرات والمئات من البشر بدم بارد وكأنهم يمارسون هواية يحبّونها ودون أدنى شعور بالذنب أو الارتكاب أحياناً؟
وأول ما خطر ببالي دور وسائل التواصل الاجتماعي، فهي بقدر ما تلعب من دور إيجابي، فلها أدوار سلبية بلا أدنى شك ولم تستطع المنظومة القانونية الحد منها؛ وذلك أحد وجوه العولمة المتوحشة، حيث تحوّلت من وسائل تعارف بين الناس لتسهيل حياتهم وطريقة عيشهم إلى وسائل دعاية لنشر الكراهية والانتقام والحقد، بل لتكون المسبّب في تدمير العديد من العائلات وهدم المجتمعات بعيداً عن أي قيم إنسانية أو أخلاقية، بحيث تتمكن جماعات إرهابية جاهلة من السيطرة على عقول نخب متعلمة وتعيش في مجتمعات متحضّرة، وتجرّها لارتكاب «الكبائر» باسم الدين.
فماذا يجمع الأوروبي ذو الثقافة الغربية الديمقراطية والليبرالية، المسيحية الأصول بتنظيم إرهابي؟ نبادر إلى القول إن مواقع التواصل الاجتماعي فتحت أبواب التعصب والتطرّف والعنف والإرهاب على مصراعيها للتأثير على عقول الشابات والشباب وتحويلهم إلى أداة إجرامية، حيث يتم تجنيد الأشخاص عبر وسائل جاسوسية إما ترغيباً أو ترهيباً للوصول إلى أكبر قدر من المعلومات الخاصة عن أشخاص ومؤسسات وأجهزة حكومية عدوة أو صديقة، سواء لقاء مبالغ أو عبر استدراج من خلال بعض نقاط الضعف.
وقد تطور مثل هذا الأمر خلال الانفجار الهائل في تكنولوجيا الإعلام والمعلومات وثورة الاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية – الديجيتال، عبر لقاءات مباشرة أو اتصالات هاتفية أو رسائل بالبريد الإلكتروني أو من خلال شيفرات خاصة وبلغات مختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي، وهكذا استدرجت بعض أوساط الشباب إلى سلوك طريق العنف والقتل واستباحة الكرامات، من خلال أفكار وشعارات تم استزراعها في العقول، لتنقلهم من عالم التخلف والبؤس أحياناً، أو عدم الرضا عن مجتمعاتهم، إلى عالم الحقيقة الافتراضية والدين الافتراضي؛ وذلك من خلال متناقضات: منها مواجهة ما هو قائم بالقتل والتدمير والتفجير والأحزمة الناسفة، ليتم مقابله تصوّر الحياة الرغيدة بالجنس والوعد بالجنة والعدل المطلق، وهكذا يبقى المتخيّل والافتراضي في الحياة والآخرة.
لقد استغل «داعش» الشباب الذي يقضي ساعات طويلة يومياً على الأنترنت ليتحدث عن أوضاعهم ويسحبهم إلى طريق لم يرغبوا أن يكونوا جزءاً منه يوماً ما، وهكذا وفي لحظة ما يصبحون جزءاً من عالم الجريمة وسفك الدماء، وهذا ما يقوم به أيديولوجيو الجيش الإلكتروني الذي جنّد أرقاماً خيالية، حيث بلغ عدد المجندين في صفوفه حسب إحصائية ألمانية إلى 200 ألف مجنّد، سواء عبر الفيسبوك و تويتر واليوتيوب وغيرهما، وحسب بعض الأرقام هناك نحو 50 ألف فتاة بين 16-24 عاماً، ضمن حركة «داعش» العنكبوتية، حيث يستدرجن بوسائل ناعمة وخبيثة من خلال توجيه أسئلة وعبر نصائح تقدم لهن من مواقع خاصة وتسهيلات بعد اختبارات للانخراط في صفوف التنظيم وعبر اللغات التي يتحدثن بها. ويضم الجيش الإلكتروني خبراء متخصصين للاتصال بمجموعات مباشرة، سواء في المقاهي أم المدارس والجامعات أم المحلات العامة أم المساجد والجوامع والأماكن الدينية.
ويتم التجنيد في مرحلته الأولى بتأكيد الالتزام الديني وتأدية الفرائض الدينية، ثم يبدأ العمل بشكل تدرّجي وهادئ لضخ المفاهيم الخاصة بالتنظيم الإرهابي، وبعدها تزيّن لهم صورة ما سمّي ب«الجهاد»، ليرسلوا إلى سوريا أو العراق أو غيرهما.
وحين يلتحق الشباب والشابات في المواقع الأمامية للمواجهة، هناك يخضعون للمراتبية، يقف على رأسها الأمراء والمشايخ الذين لهم القرار، وعلى الآخرين الانصياع والتنفيذ.
وحسب اعترافات قيادي كبير في تنظيم «القاعدة» كان قد تم إلقاء القبض عليه في سوريا، قال: إن عملية التجنيد تحتاج إلى «تزكية» من أشخاص ثقة ومعروفين، وربما يحتاج البعض أكثر من تزكية لضمان المعلومات الصحيحة، ثم تبدأ التهيئة النفسية والتعليمات الأمنية من الملابس والشكل العام الذي ينبغي أن لا يجلب الانتباه، وعدم إعطاء أي دليل على التوجه الديني وصولاً إلى المواقع المتقدمة ليبدأ بعدها التدريب وضمن المواعظ المعروفة: الكتمان والسرّية واختيار الطرق الأكثر أماناً، وبالطبع تقتضي شروط العمل السري عدم الثرثرة والتزام الصمت أحياناً وعدم إخبار أحد والصبر وقبل كل ذلك إعطاء الضمير والقلب إجازة مفتوحة، أو ربما حفظه في ثلاّجة إلى الأبد.