تفكيك إنسان أو … ربما دول
قرأت في أواسط الثمانينات، مسرحية بعنوان ” الرجل هو رجل” (Mann ist Mann) لبرتولد بريشت.وأنا لا أخفي إعجابي بهذا الشاعر والكاتب المسرحي الألماني الذي قمت بترجمة الكثير من قصائده إلى العربية، وإعجابي هو بسبب واقعيته وانحيازه التام لقضايا المظلومين وبوصفه ينتمي ثقافياً وفنياً لمدرسة أحترمها وهي ” الثقافة والفن للحياة ” أي أن الثقافة ليست للتسلية وقضاء الوقت، بل أولاً ينبغي أن تعبأ في خدمة قضية مهمة تستحق من الرأي العام الوقوف لجانبها. ويكتب بريشت في مقدمة مسرحيته (الرجل هو رجل) أنه سوف لن يخدع الجمهور، وسيفضي بما يريد عرضه مقدماً بلا لف ولا دوران، وهو أنه يعتقد أن الإنسان قابل للتفكيك والتركيب كأي ماكنة، أو قل كأي قطعة سلاح ..! إنها نظرية مذهلة حقاً، ولكنهل يمكن تحقيقها حقاً في الواقع المادي …؟
أم ترى هل هذا ضرب من أعمال الأدب اللامعقول ..؟
كلا وألف كلا … بل عندما يقرأ الإنسان ويتعلم ويصبح أكثر وعياً، يصبح عصياًعلى التفكيك والتركيب .. لن يحميك سلاح ولا حتى قنبلة ذرية، بل الثقافة فقط .. وإليك الدليل الساطع، فوق ما لديك من أدلة … وعندما تشاهد غالبية من ينقادون للتضليل وغسل الدماغ والتفكيك وإعادة التركيب، هم من الأميين أو أشباه الأميين. وبريشت في مسرحيته الرائعة يثبت أن الإنسان يمكن تفكيكه وتركيبه .. ولكن أي إنسان ..! تلكم هي مسألة جوهرية .
فالكثير منا يعتقد.. لماذا يقدم (س) من الناس على القيام بأعمال ولا معنى لها ..؟ هل بحكم العادة .. ربما ..! أم ترى بحكم تلقين طويل الأمد، جرى دمجه بمفردات الحياة اليومية ( اللباس والطعام والجلوس والحديث وحتى بإطار العلاقات الجنسية )، فيكون الداخل فيه كالداخل في دوامة في وسط النهر يصعب جداً عليه الخروج منها، إلا إذا كان سباحاً قوياً، له ذراعان قويتان .. أو عقل متفتح يأبى أنيكون أسيراً … أو أن يقبل المثول لتجربة التنويم المغناطيسي أو كما يقال ” التعريض لغسيل دماغ شامل “. ومعظم القضايا الجوهرية خارج إمكانية إعادة النظر أوالتفكير بها، فقد أضحت من المسلمات حتى لو كانت خطأ .. وفي العصر الحديث يتحول إلىإنسان آلي ” روبوت ” مبرمج، ليس بالضرورة أن يعي أو يقتنع بما يفعله،ولكنه سيفعل وفق البرنامج … هذا مدهش جداً ولكن ليس بدرجة غريبة، فهذا اليوم علموثقافة وبريشت كان سباقاً إذ كتب عنها عام 1927 ..! ولهذا تعادي القوى الرجعيةالثقافة ..!
نعود لمسرحية ” رجل برجل ” لبرتولد بريشت المذهلة التي كتبها عام1927 (حاولت إيجادها على الأنترنيت باللغة العربية لإهداءها لأصدقائي، وللأسف لم أوفق) والتي أعتقد أنها تنتمي لتلك الأعمال التي يجب قراءتها بعمق وانتباه، والتي هي ضرب من فن التوغل في عمق الإنسان، وضرب من الهندسة الإنسانية حيث يعمد بريشت إلى تفكيكه وتركيبة كما يفعل ميكانيكي ماهر مع ماكنة مؤلفة من براغي وقطع، وبتقديره(بريشت) أن هذه العملية التي يصنع فيها إنسان جديد في جلد جديد تحتاج (ثقافياً) إلى ثلاثة مهندسين عاطفيين ليصنع إنساناً جديداً، وليس بالضرورة أن يكون الإنسان المثالي..! وما يجري تلقينه هو في الواقع ليس سوى ممارسة ” الكذب الجمعي،وتأسيس عصبة سيئة، وقوة تمتلك القدرة على الإغواء والخداع “. وغاية هذا التفكيك والتركيب، هو خلق إنسان: يفكر كما نريد، ويعتقد بما نريده له أن يعتقد، وأن يصدق ما نقوله نحن له لا ما تراه عيناه، وكل هذا يجعل منه بعد الاستيلاء على شريحة عقله ليتحول إلى ماكنة تسير، وقد تقتل وتدمر، وتصرخ وتقفز وتركض ..!
كيف يطرح بريشت هذه القضية : ما لذي يحدد هوية الإنسان ..؟ الولادة أم التربية ..؟ وإذا جرد الإنسان من أسمه فهل يصبح شخصاً آخر..؟ وهذه قضيه اجتماعية / نفسية ناقشها عدد من المفكرين والفلاسفة بصيغ متعددة، وهناك كثير من الأنظمة تحاول أن تجرد الإنسان من شخصيته ليصبح عنصراً في خدمة ” المجتمع “. وهذه عملية تدور منذ مطلع القرن الماضي بطريقة منهجية مدروسة، وربما قبل ذلك بطريقة عشوائية اعتماداً على التجربة والتعييث ..
ويبدو تصور هذا الأمر للوهلة الأولى مستحيلاً، إلا أن القارئ أو المشاهد سيقتنع كلياً بعد مقاومة يبديها، لأنه بالنتيجة سيتخلى عن بعض ما علق بثيابه أو بروحه مما حاولت جهات كثيرة أن تلصقها به، الآن يبدو له أنه أمام أجهزة معقدة وأنها قد نالت شيئاً منه، ولكن الإنسان يمتلك قدرات مذهلة للمقاومة ولا يريد أن ينسف قناعاته بنفسه، ولكن حين يصل الإنسان طوعاً إلى قناعة ما، يتحول إلى قوة مادية لا تقهر، والفكر الحر هوما يخيف الطغاة وقوى الظلام، والخرافات. وأنت في قاعة فسيحة إذا كنت شجاعاً تسلق النوافذ العالية وافتحها ليدخل النور والهواء النقي، فستجد الكثير من الحقائق مماكانت مغطاة وألواناً أخرى كنت مغشوشاً بها، لاحظ كم هو حكيم المثل ” لا تشتري قماشاً في الليل “. وإذا أخضعت كل آراءك وقناعاتك لمحاكمات عقلية، فإنك ستضطر لإلغاء بعضها، أو أن تجري عليها تعديلات مهمة.
لم تغادر فكرة مسرحية بريشت فكري، وبدت لي أنها فكرة مرعبة أن يفكك الإنسان ويعاد تركيبه مجدداً بجلد جديد، و (فكر جديد)، وقبل أن ينصرم القرن العشرين كان العلماء قد توصلوا إلى الاستنساخ، الحيواني (أولاً)، وبالطبع يعني ذلك ضمناً، قدرة الإنسان على استنساخ الإنسان أيضاً. ولكن من غير المعروف ماإذا كان المستنسخ (البشري أو الحيواني) سيحمل نفس الصفات من الخزعة التي جرى الاستنساخ منها، وإذا كان الأمر كذلك فإن الأمر سيقود إلى كوارث يصعب تحديد أبعادها.
ولكن في تأمل الموضوع (تفكيك الإنسان وإعادة تركيبه) سنصل إلى نتائج غريبة،وبعض منها جاءت في كتب علماء النفس، وفي موضوعات الحرب النفسية، وقد تسنى لي مشاهدة فلم قصير (مرفق طياً في الأنترنيت/ الفيسبوك) باللغة الروسية أصلاً، وأعتقدأن مثل هذه الدراسات والبحوث كانت موجودة منذ عهد الاتحاد السوفيتي، وقد تعرفت على معهد في الاتحاد السوفيتي يعني بدراسات الباراسايكولوجي (التخاطر من بعد) (Parasaychologie)، ومن المؤكد أنها موجودة ومزدهرة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، (الولايات المتحدة خاصة) وفي التمعن بهذه الدراسات والأبحاث نستطيع أن نتعرف على حجم ما يواجه بلادنا وأمتنا. والوعي بالشيئ خير من الجهل به .
نحن نتعرض لحملة واسعة النطاق، وخصومنا يستخدمون كافة الوسائل، وإذا غير قادرين على مجاراتهم بأسلحتهم، فلن لتزم أقصى اليقظة، ولننتبه للحملة النفسية، وهنا كمن يردد ما يبثه العدو بحسن نية، أو من باب التهويل والمبالغة، ولكن هناك من يفعل ذلك متعمداً وهو يمثل الطابور الخامس الموالي للعدو، بصرف النظر عن آليات قيامهبهذا التخريب.