تماثيل دستويفسكي
توفي الكاتب الروسي الكبير فيودور ميخايلوفيتش دستويفسكي عام 1881 في مدينة بطرسبورغ بروسيا ولم يكن هناك اي تمثال له اثناء حياته طبعا مثل كل الكبار والعظام من المفكرين و العلماء و الفنانين والادباء …الخ في كل زمان ومكان , فالتماثيل تقام فقط لمن يقف على رأس السلطة الحاكمة اثناء حياتهم وحكمهم , اما للاخرين من الذين يستحقون ذلك فعلا فان التماثيل تقام بعد مرور وقت طويل جدا من رحيلهم الابدي , ولكن عملية نصب التماثيل لهم تستمر بعد رحيلهم حسب مسيرة عملية انتشار مجدهم بعد الموت وحسب قيمة موقعهم الفكري وتأثيرهم في مسيرة مجتمعاتهم و طبيعة تلك المجتمعات وسلطاتها الحاكمة ومستوى ثقافتها طبعا, واول تمثال اقيم لدستويفسكي في موسكو كان في عام 1918 ( اي بعد 37 سنة من وفاته ) , واستمرت عملية اقامة التماثيل له في روسيا( وخارجها ايضا) ولحد الان , وآخر تمثال اقيم له كان في عام 2010 في مدينة توبولسك الروسية ( اي بعد 129 سنة من وفاته ) , و نتناول في مقالتنا هذه قصة تلك التماثيل لمؤلف روايات الجريمة والعقاب والاخوة كارامازوف والابله وبقية الروائع الادبية المعروفة في بلده روسيا وفي العالم اجمع .
نتوقف قليلا عند التمثال الاول لدستويفسكي في روسيا, والذي تم تدشينه عام 1918 ويجسٌد دستويفسكي واقفا ومنحني الظهر قليلا وعلامات المعاناة والآلام بادية على وجهه , ويبدو – خصوصا من بعيد – وكأنه عجوز متقدم جدا بالعمر. من المعروف ان الامبراطورية الروسية اشتركت رسميا وفعليا في الحرب العالمية الاولى ( 1914 – 1918 ) , وان ثورة اكتوبر الاشتراكية حدثت عام 1917 , والتي أدٌت فيما بعد الى انهيار الامبراطورية الروسية وانسحابها من تلك الحرب طبعا بعد انهيارها وتاسيس دولة الاتحاد السوفيتي , ولهذا فان اقامة وتدشين تمثال دستويفسكي عام 1918 يثير تساؤلات عديدة جدا في تلك الفترة التاريخية الحرجة والصعبة والانتقالية والتي تمتلك خصوصية جدا في تاريخ روسيا ومسيرة احداثها , اذ ان تاسيس الاتحاد السوفيتي وما رافق ذلك من احداث قد ادٌى الى الحرب الاهلية بين ( البيض ) و( الحمر ) اي بين انصار الجيش الامبراطوري الروسي الذي بقي مواليا للقيصر ( الجيش الابيض ) وبين انصار( الجيش الاحمر ) الذي تم تشكيله من انصار الثورة الاشتراكية كما هو معروف , ويبدو من المؤكد ان قرار اقامة و افتتاح تمثال لدستويفسكي قد تم قبل فترة من تلك الاحداث الجسام , و تم تنفيذه ليس الا في ذلك التاريخ ( اي عام 1918 ) , علما ان افكار دستويفسكي وفلسفته – كما هو معروف – لم تكن تنسجم ابدا وروحية الثورة الاشتراكية التي حدثت آنذاك و لا مع افكارها واهدافها , ولكن التمثال – على الاغلب – تم تدشينه فعلا لعدم استقرار الوضع العام في ذلك الحين و عدم حسم قضية السلطة , وهكذا – وبعد استقرار الوضع في روسيا – قررت السلطة السوفيتية عام 1936 نقل هذا التمثال من موقعه في شارع من الشوارع الكبيرة والمهمة بموسكو ووضعه امام بناية المستشفى التي كان يعمل بها والد دستويفسكي , والذي كان يسكن مع عائلته في شقة للاطباء تابع للمستشفى , وهناك في تلك الشقة ولد فيودور دستويفسكي وعاش طفولته وصباه الى ان بلغ عمره 16 سنة , وعليه فقد وجدت السلطة السوفيتية التبريرات المنطقية المناسبة لنقل التمثال الى هناك , حيث ولد وعاش دستويفسكي , وكان هذا هو التمثال الوحيد في موسكو لدستويفسكي طوال تلك الفترة غير القصيرة في تاريخ روسيا ( واذكر ان احد النقاد الروس قد كتب يقول ان دستويفسكي قد هاجر من روسيا بعد الثورة الاشتراكية كما هو حال معظم الادباء الروس آنذاك رغم انه توفي عام 1881 ! ) , اما التمثال الثاني فقد تم تدشينه في عام 1993 اي بعد سنتين من انهيار الاتحاد السوفيتي , وقد تبرع بتكاليفه احد المواطنين الروس واقامه في ضيعة بين الحقول والازهار وكتب على قاعدة التمثال كلمات – ( الى رسول الوطن ) , ورغم اهمية هذا الحدث ورمزيته الا ان التمثال الثاني الحقيقي والرسمي له تم تدشينه في عام 1997 بموسكو (اي بعد 116 سنة من وفاة دستويفسكي وبعد 75 سنة من اقامة التمثال الاول له ! ) وذلك قبيل الاحتفالات بالذكرى ال 850 سنة على تاسيس موسكو , وقد تم نصبه امام المكتبة المركزية ( مكتبة لينين سابقا ) قرب مركز مدينة موسكو , وهو تمثال ضخم جدا ومتميز فعلا , ويجسٌد دستويفسكي جالسا على كرسي وهو يحدٌق بتأمل وحزن دفين في الساحة المحيطة به , ويشعر الشخص الواقف امامه وكأن الكاتب يحدق في عينيه اينما يدور حول التمثال ( وهو الانطباع الموجود عند النظر الى لوحة الموناليزا الشهيرة في متحف اللوفر الباريسي ) , وقد تم نصب نفس هذا التمثال في عام 2006 في مدينة دريسدن الالمانية وافتتحه آنذاك الرئيس الروسي بوتين مع مستشارة المانيا السيدة ميركل , وبما اننا نتحدث عن المانيا فيجب الاشارة حتما الى انه يوجد تمثال آخر لدستويفسكي في المانيا تم افتتاحه عام 2004 بمدينة بادن بادن , حيث خسر دستويفسكي كل امواله في صالات المقامرة هناك , والتمثال هذا فريد من نوعه بكل معنى الكلمة , اذ انه يجسٌد الكاتب وهو يرتدي معطفا ضيقا ومبعجا ويقف حافي القدمين على نموذج مصغٌر من الكرة الارضية , وتقف الكرة الارضية هذه على صحن كبير مسطح , وهو التمثال الوحيد بالعالم الذي يصور دستويفسكي حافي القدمين , ورمزيته واضحة المعالم جدا , اذ انها تشير الى خسارته لكل شئ في القمار عندها, وهي قصة معروفة للجميع , ولكنه – مع ذلك – يقف على كل الكرة الارضية شامخا رغم انه حافي القدمين . ونعود الى قصة تماثيل دستويفسكي في روسيا , ونشير الى تمثال اقيم له في بطرسبورغ في نفس ذلك العام الذي افتتح فيه تمثاله في موسكو , اي عام 1997 , وقد تم تدشينه قرب شقته التي كان يسكن فيها في بطرسبورغ ( والتي توفي فيها , وهي في نفس الوقت ليست بعيدة عن تلك الكنيسة التي كان يزورها دائما , والتي تم الصلاة على جثمانه فيها , وقد تحولت الشقة الان الى متحف يزوروه الكثيرون من المعجبين به لحد الان ), هذا التمثال يجسٌد دستويفسكي جالسا على كرسي وهو في حالة تأمل , ومن الطريف ان نشير هنا الى ان هذا التمثال غالبا ما تكون الورود الطبيعية موجودة بين يدي دستويفسكي , وهي ورود يقدمها المعجبون به ولحد الوقت الحاضر. اما التماثيل الاخرى له , فيجب الاشارة حتما الى تمثال اقاموه له في مدينة اومسك بسيبيريا عام 2001 ( وهو ثاني تمثال له في تلك المدينة ) , حيث كان يقضي سنوات سجنه في تلك المدينة السيبيرية , وهذا التمثال متميز جدا , اذ انه يجسٌد دستويفسكي وهو واقف ومكبٌل بالسلاسل الحديدية , والتي ترمز بالطبع الى كونه كان سجينا هناك.
ان قصة تماثيل دستويفسكي ترتبط طبعا بمسيرة حياته ومواقف المجتمع الروسي تجاه هذا الكاتب الكبير وابداعه, و الاطلاع على قصة هذه التماثيل تمنحنا نموذجا (واكاد ان اقول درسا ) لما يمكن لنا ان نعمله نحن مع مبدعينا المظلومين اثناء حياتهم وبعد رحيلهم الابدي .