القبيح الجميل والجميل القبيح
أحدى أهم المسائل في جميع الأوقات وفي جميع الثقافات هي على حد قول شاعرنا الكبير (نيكولاي زابولوتسكي في قصيدته الطفلة القبيحة التي نشرها عام 1955 – المترجم) :
«ما هو الجمال
ولماذا يؤلهه الناس؟
أوعاءٌ فارغ ٌ هو،
أم نار تتوقد في الوعاء؟»
وهذه المسألة مهمة فعلاً وطُرِحَت بأشكال مختلفة جداً في مختلف العصور. لا حاجة للغور بعيداً في أعماق القرون الماضية، بل تخَيَّل أن هناك فتاة ممشوقة القوام ترتدي تنورة قصيرة وضيّقة مكشوفة البطن وسرّتها مثقوبة تتدلى منها حلقة وتسير الهوينى بأحد شوارع موسكو، على سبيل المثال، في بداية السبعينيات. ربما لا يفكر الناس حتى بتسليمها الى الشرطة – بل يرسلوها على الفور الى مستشفى المجانين.
إنَّ تحديد مفهوم الجمال ومفهوم القبح الذي يسير معه جنباً الى جنب – أمر ليس بالهيّن مطلقاً. إنه يتطلب عمقاً فلسفياً وحيازة مادة ثقافية وتاريخية كبيرة. وقد قام بخطوة جادة في هذا المجال فريق من المؤلفين الإيطاليين بزعامة إمبرتو إيكو المعروف، وهكذا ظهر الى النور مجلدان اثنان ضخمان يحتويان وسائل إيضاح رائعة – هما «تاريخ الجمال» و«تاريخ القبح». وصار هذان الكتابان متاحان لنا كذلك بفضل جهود دار نشر «سلوفا / الكلمة». والتاريخان محدودان: بالزمن – من عهد الإغريق القدماء الى يومنا هذا، وبالبعد الحضاري – فالكلام فيهما يقتصر على الثقافة الغربية. والكتابان مرتبان على النحو التالي: نص المؤلفين ترافقه رسوم توضيحية مناسبة ومدعوم بمقتطفات من أعمال الفلاسفة والفنانين والكتّاب والشعراء.
الجميل مقابل المنشود
يبدأ إيكو الحديث عن الجمال من الرقص المفاهيمي، الذي تتضح نتيجة له السمات الأساسية لظاهرة الجمال. فنحن نحدد بالصفات رائع، راقٍ، بديع، مهيب، والكلمات التي تشبهها الأشياء التي تروق لنا بكل تأكيد. وتكون مفردة جميل بهذا الصدد مساوية لمفردة حَسن. فالفرد في الحياة اليومية لا يدعو الشيء جميلاً إذا أعجبه فحسب بل كذلك إن أراد أن يمتلكه. ويتضح ان الجميل في حياتنا كثير للغاية: فهو يشمل حب المتعة والثروة المكتسبة بالحلال والطعام اللذيذ . . . الخ. ولا شيء غير طبيعي إذا أردتَ كل ذلك. الإنسانية إنسانية للغاية! والطيب والحسن – هو ما يوقظ في الإنسان الرغبة. فعلى سبيل المثال، عندما نتحدث عن تصرف جيد وحسن، فإننا نظهر الرغبة باستعدادنا للقيام بعمل على شاكلته. ومن ثم تجري ازدواجية للمعنى. إننا نطلق صفة الحُسن والجودة على التصرفات التي تتوافق مع المبادئ السامية، لكنها تترافق مع شدائد وأمور مزعجة جدية كمقتل محارب بطل في أرض المعركة وتفاني الشخص الذي يرعى المصابين بالجذام . . . الخ. والإنسان على العموم يفضِّل مثل هذه الأفعال ويعجب بها ولكن بسبب الجبن والأنانية المتأصلَيْن فيه لا يريد لها أن تقع على عاتقه. وكذلك في مبدأ: الإنسانية إنسانية للغاية! وهكذا، هناك بعض الأفعال الحميدة ظاهراً التي نفضِّل الإعجاب بها أكثر مما نفعلها. وهذا بالذات ما نطلق عليه الجميل.
يمكن أن يكون الكلام يدور عن الجمال عندما يبدأ الفرد بالإعجاب بشيء بصدق، من دون الرغبة بحيازته. المسألة كلها تكمن بالعبثية والخلو من الغرض (النزاهة). الجمال هو ما ليس من أجل شيء ما. إنه كما قال شاعر كبير آخر من شعرائنا (هو نيكولاي غوميليف في قصيدة الحاسة السادسة التي كتبها عام 1920 – المترجم): «أن لا تأكل ولا تشرب ولا تُقَبِّل». الجمال، مثل الحرية، لا يمكنه أن ينتج شيء سوى ذاته نفسها. وهما فوق الأشياء العادية المبتذلة والشهوات – كالجشع والغيرة والحسد والتعطش لحيازة الأشياء، التي يعاني منها الإنسان لا تمت بصلة للإحساس بالجميل. والإحساس بالجمال يختلف اختلافاً جوهرياً عن الرغبة. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك هي العبارة المأثورة لدون أمينادو الفذ (شاعر روسي ساخر ولد في عام 1888 وتوفي في عام 1954 – المترجم): «أن تعجب على الريق بشروق الشمس – هذا ما زلت أعترف به. لكن أن تعجب بغروب الشمس وأنت بمعدة خاوية – فذاك الهراء بعينه».
لا ينطلق المؤلفون من فكرة معدة سلفاً عن الجمال، إنهم يعرضون ما عده الناس جميلاً في أوقات مختلفة على مدى آلاف السنين. وهذه ميزة أخرى لهذه الدراسة. يجري التشكيك هنا بالصلة الوثيقة بين الجمال والفن التي أقرها العصر الحديث. فالكثير من النظريات الإستيتيكية تعترف بجمال الفن وحده واضعةً جمال الطبيعة أدنى منه بكثير، بيد أن الوضع كان معكوساً على مدى عصور كاملة. وهكذا أمامنا تاريخ الجمال لا تاريخ الفن ولا يجري النقاش حول الفن إلّا حين يكون هناك ارتباط بين الفن والجمال.
هنا تبدو المفارقة واضحة: لأن المادة الوثائقية لتاريخ الفن كلها تتكون حصراً من نتاجات الفن. وقال إيكو بصراحة: لأن الفنانين والكتّاب والشعراء والفلاسفة في جميع العصور كانوا يتحدثون عمّا كانوا يرونه جميلاً بينما الفلاحون والحرفيون لم يتركوا لنا شهادات من هذا القبيل. والحقيقة، عندما يبدأ الباحثون بالاقتراب من يومنا هذا يتداولون الوثائق التي لا يمكن أن تدخل في مجال الإستيتيكي : صور السينما والتلفزيون والإعلان.
يفتتح المجلد بجداول مقارنة مُعبِّرة تمثل أنماط جمال النساء والرجال المثالية لجميع العصور. على سبيل المثال، جدول «فينوس العارية» يبدأ بمجسم لفينوس ولندروف من الألف الثالث قبل الميلاد مقزز ومرعب من وجهة النظر الحالية، ماراً عبر العصور وينتهي بصورة عارية لمونيكا بيلوتشي. وجدول «أدونيس العاري» يبدأ بصورة تمثال لرجل من القرن السادس قبل الميلاد وينتهي بصور لأجساد مارلون براندو وأرنولد شوارزنيغير بعضلاتهم الملفوتة. ومن ثم تُستعرَض صور من أزمان مختلفة لفينوس وأدونيس مرتدين للملابس وصور لوجوههم وتسريحاتهم ولتطور صور مريم العذراء ويسوع المسيح وصور لملوك وملكات.
غير أن العمل كان سيبدو سطحياً لو توقف على مثل هذه المقارنات فحسب. إنه يتناول جوانب عديدة لظاهرة الجمال بما في ذلك تلك التي تسمح بإلقاء نظرة مغايرة على الأحقاب التاريخية المختلفة. فعلى سبيل المثال وِصِمَتْ القرون الوسطى بسمعة «القرون المظلمة». وفعلاً كانت هناك مشاكل جدية متعلقة بإنارة الشوارع والمنازل، لكن الظلام بقي مستمراً، مروراً بعصر النهضة المُشرق حتى اكتشاف الكهرباء. وكان إنسان القرون الوسطى أقرب الى الانسجام ورأى نفسه محاطاً بنور مشع. فمنمنمات القرون الوسطى ببساطة تتألق بحد ذاتها، ناهيك عن فن الرسم، مثلاً في القرن السابع عشر. وفي مرحلة نضوج القرون الوسطى تشكلت الصيغ اللازمة للجمال: كالتناسب والتكامل والوضوح، أي النور والإشراق.
تحل مرحلة أخرى وإذا بالجمال يتحول الى دين. ففي منتصف القرن التاسع عشر بدأ حلول العصر الصناعي وغيرت المدن مظهرها وظهرت جموع الناس ونشأت الطبقات التي لا تولي المجال الإستيتيكي أهمية تذكر وصار السعي للأداء الوظيفي القوة الدافعة الرئيسة. وصار الفنان يشعر بالإهانة وانصَبَّ عداءه على كل شيء وصولاً الى الأفكار الديمقراطية المنتشرة. وهكذا ترسخ الدين الإستيتيكي (الجمالي)، الذي ينص على أن الجمال – هو قيمة مكتفية بذاتها والتي تتحقق بأي ثمن. ودخل في المجال الإستيتيكي ما لم يكن في القرون السالفة ممكناً الحديث عنه: كالجريمة والموت وكل ما هو مرعب وشيطاني وكئيب. وازدهر الحنين الى عصور الانحطاط كانهيار الإمبراطورية الرومانية أو تدهور الدولة البيزنطية على المدى الطويل لهذا أطلق على ذلك الجو الثقافي تسمية الديكادانس (الانحطاط) الذي ساد في أوربا حتى العقود الأولى من القرن العشرين.
ومهم جداً أن المؤلفين أوردوا مبدأ: أن الجمال لم يكن يوماً قط شيئاً مطلقاً وثابتاً بل تنوع تبعاً للبلاد والزمان. والكلام لا يدور هنا عن الجمال الجسدي فحسب – سواء كان بشرياً أم طبيعياً، بل كذلك عن جمال الله والقديسين والمفاهيم والأفكار.
احتدام القبح
يبدو تحديد القبيح أكثر صعوبة من تحديد الجميل. وغالباً ما كان الأول يُحدَّد من خلال مقابلته للثاني. واتضح، نتيجة لذلك، أنه قد كُرِّس لتَصَوّر الجمال عدد كبير من الأعمال النظرية التي تساعد على رؤية كيف جرى تفسيره في مختلف العصور، وعليه ينبغي أن يكون تاريخ القبح مبنياً على أساس الصور البصرية واللفظية للظواهر وللأفراد التي عُدَّت في حقبةٍ معيَّنةٍ قبيحةً.
لفترة طويلة إنتُخِبَتْ طريقة سهلة: إن الابتعاد عن نموذج ثابت معيَّن للجمال يخلق تصوراً عن القبيح. ذكرنا أن توما الأكويني حصر مكونات الجميل بالتناسب والتكامل والوضوح (الإشراق). التكامل هنا مهم لأن الشيء من خلاله يكشف عن جميع خصائصه التي يحكيها شكله. وبالتالي يبدو قبيحاً ليس غير المتناسب فحسب (كالقزم ذو الرأس الكبير) بل حتى المخلوقات التي سمّاها توما «البغيضة» بسبب «نقصها» (كالإنسان الفاقد لإحدى عينيه).
إكتشف الباحثون مع مرور الزمن الكثير جداً من الأشكال الطاردة (كالموت والتفاهة والأشياء المروعة والإجرامية والشبحية والشيطانية والسحرية . . . الخ) التي تمنع من البقاء على وجهة النظر التي تقول ان القبيح – هو ليس إلّا المقابل الآلي للجميل.
يعمد إمبرتو إيكو الى تجربة لسانية مثمرة وواضحة تستحق أن نذكرها نصاً بالكامل: «إذا ما نظرنا الى مرادفات الجميل والقبيح سنرى أن الجميل هو كل: محبوب ووسيم وحسن وجذاب وفائق وآسر ورائع ومذهل ومتناغم وبهيج وأنيق وبارع ومدهش وساحر ومشرق وممتاز وباهر وعجيب وخلاب وفذ وسامٍ وذهل وفريد وطريف وظريف وأنيق وأهيف ورفيع وبهي وفاخر؛ أما القبيح فهو كل: كريه وشنيع وبغيض ومقيت ورديء ومرهب ومرعب ومُفزع وسيء ومقزز ومثير للاشمئزاز وفاحش وبذيء وقذر ومقرف وفاسد وسخيف وأخرق ووحشي ومخيف وفظيع وخسيس وسافل ومريع وبشع ومزعج وعادي وخالٍ من الجمال وشائن ومزرٍ ولئيم وحقير ومشوَّه ودميم (ناهيك عن كون الرهيب يمكن أن يستعمل كذلك في مجالات تعود الى الجميل لاسيما بخصوص الخيالي والساحر والسامي)».
يوجه إيكو الاهتمام الى تفصيل دقيق مفاده: إذا كانت جميع مرادفات الجميل تعكس الاستجابة لتقييم محايد وغير مغرض، فإن جميع المفردات التي تدل على معنى «القبيح» تقريباً تسمي الاستجابة للنفور بل حتى التقزز والرعب والفزع القوي.
ونتيجة لذلك يختار الباحث طريقته. فهو يقترح تمييز إظهار «القبيح بذاته» (كالغائط والجيفة المتحللة . . . الخ) و«القبيح شكلاً« الذي فيه خرق للتوازن المتناغم. ويقترح مثالاً معبراً. لنأخذ شخصاً بقيت لديه أسنان قليلة في فمه، إننا نشعر بالضيق ليس من شكل شفتيه بقدر ما من عدم وجود الأسنان التي يجب أن تكون لجانب الأسنان المتبقية. والظاهرة الثالثة التي يعرضها إيكو – هي التصوير الفني لمكونَيّ القبيح المذكورَيْن.
يبدأ «تاريخ القبح» من تصور القبيح في العالم الكلاسيكي وينتهي بالأدب الرديء والهابط والقبيح اليوم. ويعالج الرغبات والموت والعذاب والوحشية والمعجزات، والهزلي والفاحش ومواضيع القبح الأنثوي من العصور القديمة وحتى العصر الباروكي، والسحر وعبادة الشيطان . . . الخ. ومن المهم أن نذكر أن الأسلوب المبتكر لمعالجة ظاهرة القبح يساهم في تأثير تنقية العواطف عن طريق الفن.
يمكن قراءة هذين الكتابين من خلال الانتقال من البداية حتى النهاية. ويمكن الانتقال من عصر الى عصر ومن قضية الى قضية وأخيراً يمكن تصفحهما الى ما لا نهاية: ببهجة وفزع، واندهاش وقشعريرة. لكن المسألة الرئيسة تكمن في انهما يؤكدان على أن الإنسان: رغم كل تعقيداته وجدليته فهو ليس براميسوم بنواة مذَنَّبة. وهما تأكيد مهم يحول دون الوقوف في الطريق المؤدي الى البساطة الحلوة والبدائية الساحرة.