درس كبير ولكن هل من مستفيد ؟
السياسة هي مجموعة نظريات وقواعد، وممارسات قد تنطوي على تعقيدات وصعوبات، ولكنها ليست سحراً كما أنها ليست طلاسم… لذلك فإن كل ما يدور في الساحات العربية والمجاورة أمر مفهوم في غاياته وأبعاده، وقد نوهنا عن هذا مراراً. الأمة تواجه اليوم ما هو أعظم من قدراتها، من تحالفات، أتفق عليها أطراف عديدة وبدا من مصلحة الجميع أن ينهالوا علينا بكل ما يمتلكون، فأخذوا بجسد الأمة نهشاً وتمزيقاً وتدميراً، وحركوا كافة أساطيلهم العلنية وحتى تلك السرية ومنها الارتال الخامسة في ساحاتنا، من كتاب مأجورين، وآخرين سذج خيل لهم أن ما يشهدون هو ذروة الدراما، فراحوا يصفقون ويهرجون، ويلعقون أحذية الجنرالات الغزاة من كل صنف ومن كل حدب وصوب، واشتغلوا عندهم خدماً، ومخبرين وقوادين(إقراء مذكرات بريمر)، وبلغ حماس البعض أن عمل مرتزقاً وساهم في حملات الإبادة على بني قومه. (*)
كل هذا انهار خلال ساعات، بمجرد أن أعلنت الولايات المتحدة أنها بصدد مناورة واسعة بقواتها، تنسحب فيها (جزئياً … كلياً) من سوريا وأفغانستان، لأنها لا تريد أن تعمل كدركي في الشرق الأوسط، لحماية مصالح من لا يستحق … ومخطئ من يعتقد أن هذا قرار أهوج أتخذه رئيس نصف عاقل، ونصف تاجر، والجهلة فقط يعتقدون أن قرارا كبيراً كهذا يتخذ بين ليلة وضحاها، وبدون دراسة عميقة في الدول الكبرى وبكافة أبعاده السياسية والاقتصادية، وخاصة دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، التي شعرت ببساطة أن تعرضت للغش والخيانة، ولم تكسب شيئاً، بل جازفت بمصالحها، أيما مجازفة، مقابل ماذا ..؟ الأمريكيون فكروا وناقشوا هذا الأمر مع حلفاءهم الأوربيون منذ عهد الرئيس أوباما، وقرروا سياسة جديدة تعتمد مبدأ (driving from behind) التدخل وإدارة الأزمات عن بعد والقيادة من الخلف، ودعت واشنطن الجميع والكل ليتحمل مسؤولياته، فهي بحق ليست سياسة الرئيس ترامب. الرئيس أوباما تحدث عن نفس المفاهيم، ولكن بلغة أنيقة أكاديمية، وعن هذا أيضاً كتب بدقة جورج فريدمان، المنظر المحترف للخطط الأمريكية وآرائها قبل أعوام، أميركا لا تكسب، بل تخسر، والأمر بحاجة لقرار شجاع، الحقوا بنا كعرب وعراقيين ومسلمين أذى كبير وخسائر أكبر، ولكن الأمر لا يتلخص بإيذائنا فقط.
الأمريكيون يعتقدون أنهم يتعرضون للابتزاز في مواقف استراتيجية، فالأوربيون ركبوا على ظهرها يريدون منهم حماية أوربا والوقوف بوجه الروس وما يعني ذلك من تكاليف سياسية ومالية وغيرها، بينما هم يريدون العيش برفاهية ولا يدفعون ثمن أمنهم، وشرقي آسيا تعول على الولايات المتحدة في استقرارها والوقوف بوجه التنين الصيني، والفرس اتخذوا منها دروعاً استتروا بها ودخلوا في حماها وصاروا يصولون ويجولون بموافقة من البيت الأبيض في أرجاء الملعب، وفوق هذا الجميع غير راض ويتبرم من السياسة الأمريكية، وباعتقادهم أنه ثمن الموقف القيادي لأميركا، ولكن لا جزاء ولا شكوراً .. والآن أميركا تقول لهم، فليدفع كل ثمن سياسته من جيبه، وأن يشيد صرح بطولته على حسابه. واليوم الطرف الأقوى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً قرر المراجعة، فماذا سيفعل الآخرون ..؟
هذا هو الدرس الكبير ولكن هل من مستفيد ..؟
في بلداننا حين يتحدثون في السياسة، يخلطونها بالنوايا الطيبة، وربما يستعينون حتى بمن يفتح الفال ويضرب بالودع ..! أو الأستخارة .. وغيرنا يخرج الحاسبة (Calkulator) ويبدأ بحسابات الدخل القومي، والمعطيات الجيوبوليكتيكية، ومصادر الثروة الوطنية، القوة والضعف وحسابات استراتيجية، وتكاليف المجازفات السياسية والعسكرية. والغريب أننا نمر بتجارب قاسية ..بل وقاسية للغاية، ونخسر، ولكننا نقنع أنفسنا أننا سنلعبها أفضل هذه المرة .. وليتواصل اللعب، بطريقة خاطئة، ولا نستفيد من الدروس، والكل يعلم أن الأجنبي يدخل المنطقة يؤلب هذا ضد ذاك، وهؤلاء ضد أولئك، ويثير صراعات ونزاعات جذورها سخيفة لا تستحق دماء حتى دجاجة، ولا تستحق حتى أن نسميها مشكلات، وتتراكم الكوارث .. والسبب أن الخروف العنيد لا يعبر النهر …!
والشرق مليء بالسحر والغوامض والكوامن والخفايا، وبواطن الأمور ليس كظواهرها .. ويقود البلاد جهلة وأشباه أميين (غالباً) يحيط بهم دهماء وغوغاء يملؤون الجو صياحاً وصرخاً، مشبعين بثقافة الغيرة والحسد والكراهية والحقد والثأر، يرثون هذه الثقافة المميتة القاتلة كابراً عن كابر… أمر مدهش غريب، ولكنه للأسف الشديد هو واقع الحال المؤلم ..
أعرف قائداً سياسياً عراقياً مهماً، تحادثنا مرة في هموم وشجون السياسة العراقية، وكانت أبرز فقرة في كلامه، شكواه من لجوء القوى العراقية (بعضها) للاستعانة بالأجنبي، وله تجربة مريرة في هذا المجال، وكانت هذه الفقرة أهم ما في حديثه وقاعدة أفكاره. واستطرنا في المحادثة مطولاً عن أضرار تدخل الأجنبي في أنشطتنا السياسية، وإن أي مكسب مزعوم، إنما هو مكسب مؤقت، وسرعان ما سينقلب وبالاً وبالدرجة الأولى على من استعان بهم. إلا أن هذا القائد (محدثي) كان نفسه من بين من استعانوا بالأجنبي، وتكررت التجربة فكان من بين من قلة وجدوا صعوبة العمل (وطنياً) وخدمة البلاد بوجود إرادة الأجنبي المتناقضة إرادته مع الإرادة الوطنية، وبدرجة عالية تلغي حتى امكانية التعامل التكتيكي، فالأجنبي تهمه مصالحه حتى التفاصيل الصغيرة، بل ويفكر حتى في مستقبل وجوده ويفتش عن أسهل الوسائل لضمانها، وأرخصها، ومن بينها (بالطبع) متعاونون مطيعون، لا يكثرون من الأسئلة، وإبداء الملاحظات، ولا يطرحون أسئلة بديهية، وبمرور الوقت، سيجد الأجنبي الكثيرون من الأفراد الرخيصين يلتقطهم من الشوارع الخلفية، ومن هوامش المسرح السياسي، ولله في خلقه شؤون …!
لا تدعوا الأجنبي يتدخل في شؤونكم، السياسة بحر عميق واسع الجنبات، لا توجد مشكلة لا حل لها، العقل يحل كافة المشكلات، حملات الشتائم والسباب لا توصل أحداً إلى الهدف، والكيد والكراهية والمؤامرات في الخفاء لا تساعد على الحل، الصراع والنزاع يزيد من تعقيد المشكلة …عجيب أن يقبل قادة (يسمون أنفسهم قادة) أن يهين نفسه ووطنه ويركع للأجنبي ولا يتساهل قيد أنملة لمواطن بلاده ..!
اعتمدوا على قواكم الذاتية وإذا حصلتم على نصف ما تريدون فهذا أفضل مما تنالون أكثر بالاستخذاء للأجنبي، أو بالصراعات والمنازعات والاغتيالات فهذه لا توصل لنتائج إيجابية، والنصر فيها مزعوم ومؤقت.
كل خطأ مقبول ويمكن الاعتذار عنه، إلا التعاون مع الأجنبي فهو ضرر من بدايته وحتى نتائجه النهائية….. !
مقتطفات من كتاب : قضايا الأمن القومي والقرار السياسي، د. ضرغام الدباغ، ص52 ، بغداد / 1985
السياسة (تعني بصفة أساسية) التعامل مع الحقائق والعناصر التي تلعب دوراً في إطار الوضع السياسي والاقتصادي العام في مرحلة تاريخية معينة من أجل الوصول إلى هدف تسعى إليه فئة أو فئات اجتماعية وأدواتها التي تفرزها وتمثله: الأحزاب والحركات السياسية، أو بين تحالف يضم عدداً منها. وتمارس السياسة بصورة اشمل وأعمق وأكثر فاعلية إذا جرت ممارستها من مواقع السلطة وفي قيادة الدولة، ومن البديهي أن تشمل دائرة فعالياتها، العلاقات الدولية والأحداث الدائرة على مسرح السياسة الدولية.
الأساليب السياسية، مجموع الفعاليات والنشاطات الداخلية والخارجية التي تعتمد بالدرجة الأولى على التوصل إلى قناعات مشتركة من أجل الشروع بفعاليات مشتركة، وهو عمل يعتمد أساسا الحوار واستبعاد اللجوء إلى القوة، وفي مجال بحثنا، تمارس الدول هذه الفعاليات كإحدى سبل تأمين المصالح الوطنية العليا.
السياسة الداخلية : هي إذن مجموعة التوجهات على أصعدة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية وسائر الفعاليات الضرورية الأخرى من أجل التوصل إلى نظام اجتماعي يقوم بتلبية حاجات المواطنين التي لا بد منها من أجل مواصلة العمل على كافة الأصعدة في المجتمع، وليس ذلك فحسب، بل والعمل على تعميقها وزيادة رفاهيتهم في المرحلة الراهنة وفي المستقبل.
السياسة الخارجية: وهي تمثيل لمصالح الدولة السياسية والاقتصادية، وأهدافها على الصعيد الدولي، وبذلك إنما تعكس السياسة الخارجية صورة التطورات الداخلية ومغزاها السياسي والاجتماعي.