الشيوعيين .. ومقاومة الكاظمية
في فجر يوم الجمعة ٨ شباط ١٩٦٣, عندما أعلن الانقلابين عبر مرسلات إذاعة أبي غريب عن بيانهم الانقلابي الأول ضد الجمهورية العراقية وزعيمها عبد الكريم قاسم . أدرك الشيوعيين في اللحظات الأولى من الانقلاب هما المستهدفين وخاصة بعد أن تأكد اغتيال الطيار الشيوعي جلال الاوقاتي أمام بيته في الكرادة مما أزاح الغبار عن الأنوار، فسارعا الشهيد حسين أحمد الرضي ( سلام عادل ) باجتماع ببعض أعضاء اللجنة المركزية منبهاً أن الانقلاب لم يستهدف قاسم وحده وانما نحن الشيوعيين وباعتباره زعيم حزب الشيوعيين العراقيين وضمن مسؤوليته التاريخية حرر بيان يدعوا به الشيوعيين وجماهير الشعب الى النزول الى الشوارع ومقاومة الانقلابين ووزع البيان في شوارع بغداد وألصق على جدران البيوت والمحلات . وأتصل بكامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي وبمحمد حديد رئيس حزب الوطني التقدمي لحثهما على المشاركة مع جماهير الشعب في التصدي للانقلابين لكنهم ترددوا بسبب ضعف الامكانيات والضعف في الملاكات والأدوات لتلك الخطوة الحرجة من تاريخ العراق.
وعاد الشهيد سلام عادل الاتصال بالزعيم عبد الكريم قاسم وأعلن موقفه الرسمي كحزب شيوعي بالوقوف والدفاع عن ثورة تموز ومنجزاتها ضد محاولات الانقلابين وطالبه بتسليم السلاح الى الجماهير الزاحفة الى بوابة وزارة الدفاع من الاحياء والمناطق الفقيرة وبيوت الصفيح ( الثورة وحي الاكراد والكريعات والشاكرية والشعلة ). ورغم محاولات الشهيد سلام عادل المتكررة منبهاً من الخطر المحدق القادم , لكنه أمتنع عن تسليمهم السلاح وأكتفى بوعود مستقبلية للشيوعيين بعد دحر نوايا الانقلابين وتأسفه عن ما بدر سابقاً من لدن زعامته في التضيق على الشيوعيين وتحجيم دورهم من خلال نزع سلاح المقاومة الشعبية وسلسلة من الاعتقالات شملت خيرة كوادره وملاكاته، بل ذهب الى أبعد من ذلك منح إجازة حزب شيوعي صوري ( داوود الصائغ ) ورفض منح إجازة للحزب الشيوعي العراقي الذي تقدم بقائمة ٣٦٠ ألف توقيع تطالب بمنحه الاجازة , مما وسع الهفوة وقربه من القوميين والبعثيين . وفي تقديرات شخصية وضمن الإطلاعات البسيطة السبب في تردد الزعيم قاسم بتوزيع السلاح على الجماهير المحتشدة أمام وزارة الدفاع هو خوفه من نيات الشيوعيين في الوثوب الى الحكم وأخذ كرسي السلطة وليس سفكاً للدماء … كما يروى، بعد أن تحسس بلذة السلطة وسحر الكرسي وطيلة عمر ثورة ١٤تموز , كانوا قادة الحزب الشيوعي ولائهم للزعيم قاسم أكثر من ولائهم للحزب مما أصابهم العمى مما كان يجري من إحاكة المؤامرة تلو المؤامرة لحين أنقضوا على الثورة والزعيم والحزب .
في مدينة الكاظمية .. وقعت ملحمة تاريخية حيث نزلوا الى الشوارع وقادوا الجماهير كل من هادي هاشم الاعظمي عضو سكرتارية الحزب الشيوعي , الذي أنهار فيما بعد . وقاد الحرس القومي الى بيت سلام عادل , وهو المشهود له في صلابته بسجون النظام الملكي . وخزعل السعدي المقدم المتقاعد وعضو المكتب العسكري للحزب الشيوعي العراقي والذي أعتقل يوم ١١ أذار وأعلن عن استشهاده يوم ٢٦ أيار وأعلن في الصحف الرسمية مع رفيقه فاضل البياتي . وحمدي أيوب العاني عضو لجنة منطقة بغداد الذي أعتقل بعد المقاومة وهو الذي أدلى على بيت هادي هاشم الاعظمي، وعدنان جلمران الذي هو أيضاً تعاون مع الانقلابين، في البدء أتخذ قادة المقاومة من مبنى الاعدادية المركزية تجمعاً عاماً لهم ومنه تحركت الجماهير الغاضبة بقيادة الشيوعيين نحو مركز الشرطة وشرطة النجدة وقائمقامية الكاظمية واحتلوها وسيطروا على أسلحتها وسلموها الى الجماهير وأحكموا سيطرتهم عل المدينة ومداخلها الرئيسية لمدة ثلاثة أيام متصلة بلياليها , ولكن بعد إعدام الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه في مبنى الصالحية يوم ٩شباط . توجهت قواتهم وبتركيز كبير في الهجوم على المقاومين في مدينة الكاظمية وأصدروا بيانهم السيء الصيت ( رقم ١٣) الى أبادة الشيوعيين في العراق . بعد ثلاثة أيام من المعارك نفذ أسلحة الشيوعيين المقاومين , لكن عدة وذخيرة الانقلابين وتحشيداتهم الكبيرة ضعفت مواقع المقاومين بعد أن تبدد أملهم بوصول تعزيزات لهم . أستباح المدينة أرتال من القوميين والبعثيين وعاثوا بها قتلاً وتدميراً.
بسبب من طابعها السياسي والتاريخي ,كانت مدينة الكاظمية حكراً للشيوعيين , ولوجود كوادر يعتمد عليها في هذه المدينة أنتقل أليها عدد من الكوادر القيادية للحزب الشيوعي ومنهم هادي هاشم الاعظمي وحمدي أيوب العاني وخزعل السعدي والذي بادر مباشرة بتشكيل فرق المقاومة الشعبية وميزها بعلامة وضعت على الأذرع تلخص العنوان ( م . ش ) . كما بدأ يصنع بنفسه قنابل المولوتوف ونظم الهجوم على مديرية الشرطة والقائمقامية وشرطة النجدة وأمانة العاصمة، وأتخذ من المساجد مواقع للقاء مع المفارز وتوجيه البيانات والنداءات، وعمل على تسليح مفارز المقاومة بالأسلحة الخفيفة من البنادق التي تمت السيطرة عليها من المواقع المحررة، الى جانب السكاكين والأسلاك الحديدية بل وحتى العصي، وشاركت المرأة بشكل باسل في المقاومة , ويذكر من أبرزهن بنات الجرجفجي وزهرة الوردي التي صعدت الى منارة جامع الدروازة لتخطب وتحشد وتحفز الجماهير على المقاومة . وحسب مختلف الروايات فإن معركة تحرير مركز الشرطة دامت أربع ساعات، وقتل فيها ثلاثة من عناصر الشرطة وجرح أربعون، لهذا كافأ الانقلابين آمر المركز المدعو حمد محمود أمين , فرقوه الى رتبة عميد وعينوه بعدئذ مديراً عاماً للشرطة ( مذكرات طالب شبيب ص ٤٥ ) .
ارتعبت قيادات الانقلابين وقوات حرسهم الذي سمي قومياً من شدة المقاومة وأصدائها في عموم البلاد خاصة وانه كانت هناك بذور مقاومة في مناطق أخرى من بغداد كالأكواخ والشاكرية والكريعات والشواكة وعكد الاكراد، لذلك ركزوا قواهم وحشدوا أفضل أسلحتهم للقضاء على المقاومة الباسلة في الكاظمية . ففي فجر التاسع من شباط توجه رتل من دبابات ومدرعات اللواء الثامن بقيادة داود الجنابي بمعية الكتيبتين الأولى والثانية، الى ساحة عبد المحسن الكاظمي وكانت الساحة حسب وصف ( طالب شبيب ) . خالية من البشر، وقد أخذ الدخان يتصاعد من أبنيتها وبشكل خاص من مركز الشرطة الذي أحرق المقاومون كل مكوناته بعد أن أخذوا ما هو مفيد لهم لإدامة المقاومة .
يقول طالب شبيب في مذكراته .. بعد أن شكلنا قوة ضغط كبيرة على مراكز المقاومين الشيوعيين بالقصف الناري الشديد . أضطر الشيوعيين وبينهم خزعل السعدي الى التحصن في اعدادية الكاظمية وفي مراكز الشرطة وواصلوا المقاومة متحدين إنذارات قوات الانقلابين ودعوتهم عبر مكبرات الصوت الى الاستسلام. ويضيف السيد (طالب شبيب) “أثبتت التحقيقات فيما بعد أن عدداً من المقاومين انسحبوا الى حيث يأمنون لكن الاكثرية دخلوا في مواجهة غير متكافئة كان مسرحها المدرسة الإعدادية ومركز الشرطة ومصلحة نقل الركاب , وتقابل المتقاتلون أحياناً وجهاً لوجه … لتنتهي المعركة بمقتل أكثر من عشرة شيوعيين عند ( تانكي ) الماء , وسقط عدد من قوات الانقلاب قتلى وجرحى ومن بينهم الملازم ثابت الآلوسي”.
وسقط عدد من الشيوعيين وهم يقاومون الانقلابين، عبد الأمير الحايك , أبراهيم الحكاك , ناظم الجودي , علي عبدالله , محمد الوردي , كما قتل رئيس نقابة المعلمين في مدخل مركز الباغات لإطلاق النار عليه . كما جرح في المعركة الشهيد البطل سعيد متروك وأعدم عند سياج اعدادية الشعب في منطقة المحيط . ما زالت معركة الشيوعي في مدينة الكاظمية علامة فارقة في تاريخه السياسي بحاجة الى فصول من الدراسات والشهادات والتقييمات طيلة عمر الثورة , كان للشيوعيين فرصة كبيرة في أستلام السلطة وتفويتها على أعدائه وأعداء الشعب , لكن تأكد ومما لا يقبل الدحض لم تكن للحزب خطة أصلاً بهذا الاتجاه ويرجع العامل ذو الوزن الاكبر الى موقف السوفييت في دعمهم لسياسة قاسم ضمن مصالحهم الاستراتيجية في الوقوف ضد أي تحرك قد يزعج الزعيم رغم الارتداد والنكوص في سياسة الزعيم تجاه الشيوعيين على حساب تقرب القوميين والبعثيين له , وهذا الأمر ليس محصوراً على وضع العراق , بل لعموم أنظمة المنطقة والعالم , كانوا القادة الشيوعيين السوفييت يراهنوا على الاحزاب البرجوازية بموضوعة التحول الرأسمالي صوب الاشتراكية أكثر من قناعاتهم بقدرة الاحزاب الشيوعية في التحولات الاشتراكية . أحد قادة انقلاب ٨ شباط عبد الغني الراوي ذكر في مذكراته حول حجم الشيوعيين وتأثيرهم على الشارع (لو بصق الشيوعيين علينا لأغرقونا) . والغريب في الأمر كثر هم قادة الحزب وضباطه جلسوا في بيوتهم ينتظرون عصابات الانقلاب ليسوقوهم الى مسالخ الاعتقال ومن ثم ينحروهم.
أيام سوداء لاتنسى أبداً …تحياتي وتقديري
كل الدلائل تشير ان الانقلابين كانوا متاكدين من انتصارهم وذلك لانهم خططوا بشكل محكم جدا عسكريا ومدنيا وحسب شهادات احدهم يقول بما معناه انهم اتصلوا بوزارة الدفاع نحن قادمون إليكم وقد قتلوا وأسروا وحيدوا كل من كان سيقف بطريقهم وكل الكلام لو ان كذا لو كان كذا كله كلام فارغ فهم اخذوا قاسم وجمهوريته وكل الحزب الشيوعي على حين غرة وان انتصار ٨ شباط حتمي لا محالة ناجح فلا يفيد ملايين في الشوارع ولا تفيد بغداد في مثل هذا شيئا ثم ان الشيوعيين كانوا كما هو أبداً مكبلين بالسوفيتية الستالينية حينها