شعار الصداقة بين الشعوب بين النظرية والمآل
حوار مع الدكتور خليل عبد العزيز
الجزء الاول
نشرت هذه المادة في جريدة الزمان العدد 6186 في نهاية العام المنصرم، تحت عنوان “خليل عبد العزيز يكشف خفايا عن شعوب الشرق المسلم في الإتحاد السوفيتي” ونعيد نشرها نظرا لأهمية وجود محتوى رقمي للقارئ العربي يوضح الآليات التي كانت تحكم تلك المنطقة، والمادة هي من نتاج الأستاذ فرات المحسن الذي تعود دائما أن يكون معطاء، وباحث عن كل ما هو مفيد للإنسانية جمعاء.
على ارض بلدان الشرق ( آسيا الوسطى ) دارت رحى معارك وغزوات عظيمة، وكانت تلك الإمارات والخانات والأقاليم تخضع تارة لهذا الغازي وتارة أخرى لذلك الفاتح.
عام 1721 قام بطرس الأكبر بإعلان إمبراطوريته الروسية العظمى التي امتدت على أراضي شاسعة. فقد حارب الدولة العثمانية ووقع بعد انتصاراته عليها، معاهدات كسب فيها أراض كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية والفارسية، وكان من تلكم الأراضي أقاليم الشرق وخاناتها وتوسع كذلك في سيبيريا الواقعة في الجزء الشرقي والشمال الشرقي من روسيا. وحارب كذلك الدول الأوربية وانتصر في العديد من المعارك وتوسع في بولندا وفنلندا ودول البلطيق وشبه جزيرة القرم التي تقع شمال البحر الأسود في الشرق الروسي.
بقيت تلك البلدان والأراضي تابعة لإدارة الإمبراطورية الروسية، لحين قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 حين سقطت القيصرية وكان ذلك مقدمة لتغير طابع علاقة تلك البلدان مع روسيا الجديدة.
بلدان الشرق، أسيا الوسطى، قريغيزستان ، أوزبكستان، تركمانستان، كازخستان وطاجكستان التي تقع وسط القارة الآسيوية، دائما ما سميت ببلدان آسيا الداخلية أو بلاد ما وراء النهر على عهد الخلافة الإسلامية، وهذه المنطقة التي تبلغ مساحتها ما يقارب 4 ملايين كم مربع ليس لها شواطئ بحرية تنفتح معها على بحار العالم سوى بحر داخلي هو بحر قزوين،ودائما شكل موقعها الجغرافي ممرا حيويا لتجارة الشرق. ويعيش فيها أكثر من 70 مليون من البشر وبمختلف الأعراق والغالبية فيها من المسلمين. وتشكل بمجموعها عقدة جغرافية لطرق برية تربط شرق أسيا بغربها وشمالها بجنوبها، باتجاه الخليج العربي. وتمتاز هذه البلدان بتنوع مصادر الثروة فيها وخاصة موارد النفط والمعادن الثمينة والثروة الزراعية.
لم يختلف حال بلدان القفقاس أو ما سمي ببلدان القوقاز وهي المنطقة الجبلية الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود وتقسمها سلسلة جبال القوقاز وتتشارك فيها جمهوريات روسيا الاتحادية، جورجيا وأرمينيا وأذربيجان.وهي بلدان غنية بالموارد الطبيعية مثل النفط والغاز الطبيعي والحديد والنحاس والرصاص.ودائما ما كانت هذه البلدان موقعا للصراعات السياسية والدينية والثقافية ووقعت فيها العديد من العمليات التوسعية.وخضعت بعض أقسام المنطقة خاصة الشمالية منها في نهاية القرن السابع عشر لحكم القيصرية الروسية.
بعيد ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 وفي 24 نوفمبر وجه لينين نداءً هاما لشعوب الشرق المسلمة وكان النداء مفعما بروح السلام والأممية ألحقه والتأكيد على حق الشعوب بتقرير مصيرها وبناء أوطانها والتمتع بحرياتها المدنية ومعتقداتها الدينية.ومما جاء فيه:
(( أيها المسلمون بروسيا و سيبيريا و تركستان و القفقاس … يا أيها الذين هدم القياصرة مساجدهم و عبث الطغاة بمعتقداتهم و عاداتهم. إن معتقداتكم و عاداتكم و مؤسساتكم القومية و الثقافية أصبحت اليوم حرة مقدسة . نظموا حياتكم القومية بكامل الحرية و بدون قيد فهي حق لكم . و اعلموا أن الثورة العظيمة و سوفياتات النواب و العمال و الجنود و الفلاحين تحمي حقوقكم و حقوق جميع شعوب روسيا . أيدوا إذن هذه الثورة وقد تم وضع برنامج ضخم لما يمكن أن يطلق عليه اليوم “التمييز المضـــاد” (affirmative action)، سُمي بالكورنيزاتسيا، أي إحلال السكان المحليين محل المستوطنين الروس. وقد بدأ بطرد المستعمرين الروس والقوزاق والمتحدثين باسمهم من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في تلك المناطق. وتوقفت اللغة الروسية عن الهيمنة، وعادت اللغات المحلية إلى المدارس وإلى الحكومة وإلى المطبوعات. وقد تمت ترقية السكان المحليين ليشغلوا مناصب في الدولة وفي الأحزاب الشيوعية المحلية وأعطوا أولوية حتى عن الروس في التعيينات. وقد أُنشئت جامعات لتدريب جيل جديد من القادة غير الروس. أيضا أُعيدت الآثار والكتب الإسلامية المقدسة التي نهبتها القيصرية إلى المساجد. وقد تم تسليم القرآن الكريم المعروف بقرآن عثمان في احتفال مهيب إلى المجلس الإسلامي في بتروغراد في 25 ديسمبر سنة 1917. وقد أُعلن يوم الجمعة، يوم الاحتفال الديني بالنسبة للمسلمين، يوم الأجازة الرسمية في كل آسيا الوسطى )).
النداء الموجه لشعوب الشرق كان تطبيقا حرفيا لمفهوم لينين عن حرية الأمم في حق تقرير مصيرها، وقدم لشعوب الشرق ورقة سياسية مغرية تدعوهم ليكونوا ضمن دولة جديدة غير تلك القيصرية الروسية، دولة تضمن لهم حرية المعتقد الديني والسياسي وقبله الحق في التحرر والانفصال أي تقرير مصيرهم إن أردوا ذلك.
كان النداء حافزا لجميع المسلمين بروسيا وبلدان أسيا الوسطى و سيبيريا و تركستان و القفقاس لقبول التعاون مع روسيا الاتحادية، وجعل تلك الشعوب تشعر بوجودها القومي في ظل أعراف وقواعد حددها بيان قائد الثورة ومنظرها.
وجدت تلك الشعوب الفقيرة والمتخلفة ضالتها في انتصار ثورة أكتوبر للتخلص من حكم القياصرة لذا قدمت تأييدها المباشر للثورة على القيصرية بقيادة فلاديمير أيلتش لينين.
بعد وفاة لينين في 21 يناير،كانون الثاني عام 1924 خلفه بالقيادة جوزيف ستالين بعد صراع شرس خاضه داخل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي واستطاع في النهاية حسم الصراع لصالحة، ولم يطل معه الأمر، فخلال فترة قيادته أصدر دستورا جديدا منح نفسه بموجبه سلطات مطلقة في الحكم.وفي فترة حكمه خرجت الدولة عن المبادئ التي قامت عليها ثورة أكتوبر، وقام ستالين بالتخلص من المعارضين له داخل الحزب، وتحول الاتحاد على عهده إلى دولة موحدة ذات سلطة مركزية قوية وطابع شمولي،كان الحزب وقوى الأمن هما المركز الذي يتحكم بجميع نشاطات الدولة وإدارات بلدان الاتحاد.
هذا التاريخ الطويل من التغيرات في المشهد العام للعلاقة بين جمهوريات الاتحاد السوفيتي وأيضا في سياسة السلطة السوفيتية تجاه شعوب الشرق المسلمة المنضوية للاتحاد،ومن ثم الانسلاخ السريع عن الاتحاد إثر تصدع السلطة السوفيتية وانهيارها في موسكو.
كل ذلك دفعنا للحوار مع الدكتور خليل عبد العزيز لاستجلاء رؤيته في شأن العلاقة التي كانت قائمة بين شعوب الاتحاد السوفيتي، ومحاولة لعرض تلك المواقف، وهو الذي عاصرها لزمن طويل وعاش أحداثها لأكثر من عقدين، ونحن هنا ننقل رأيه فيما حدث بحيادية،طالبين منه الإفصاح عما خبره في طبيعة الحراك السياسي والعلاقات بين جمهوريات الشرق المسلمة والسلطة الاتحادية في الاتحاد السوفيتي السابق.
ولد الدكتور خليل عبد العزيز في مدينة الموصل من عائلة متوسطة الحال و ساهم في الحركة الوطنية منذ أعوام الخمسينات حيث بادر بتشكيل اتحاد الطلبة العراقي العام في مدينة الموصل وأصبح رئيسا له. وشارك في تظاهرات انتفاضة عام 1952 . في العام 1954 أصبح ممثلا للطلبة في لجنة الجبهة الوطنية التي شكلت آنذاك وخاضت الانتخابات النيابية، وعلى أثر قيام حكومة نوري السعيد بحل المجلس النيابي، شارك في التظاهرات الاحتجاجية وعندها صدر أمر بإلقاء القبض عليه، لذا تقرر انتقاله إلى بغداد، حيث أصبح عضوا في اللجنة العليا لاتحاد الطلبة العراقي العام. كما عمل في تنظيمات الطلبة التابعة للحزب الشيوعي العراقي. في عام 1956 ألقي القبض عليه في بغداد وصدر قرار بالحكم عليه بالحبس لمدة عام واحد قضاها في سجن بعقوبة، وبعد انتهاء فترة الحكم ، أبعد إلى مدينة بدرة الحدودية التابعة للواء الكوت. بعد ذلك سيق إلى معسكر الشعيبة جنوب العراق لأداء الخدمة العسكرية بعد أن تم فصله من الدراسة وزوال أعذار تأجيله من أداء الخدمة العسكرية. وكان معسكر الشعيبة يضم أكثر من 150 مناضلا وطنيا من جميع أنحاء العراق. وأثناء خدمته في ذلك المعسكر قامت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958.
بعد ثورة 14 تموز عاد إلى الموصل وتقلد مركز رئيس اتحاد الطلبة العراقي العام هناك. أعتقل ليلة مؤامرة الشواف وأودع في الثكنة الحجرية. أطلق ضباط وجنود كتيبة الهندسة الموالون للجمهورية سراحه مع بقية المعتقلين. ساهم بنشاط في عمليات قمع حركة الشواف. في عام 1959م صدرت بحقه عدة أحكام بالإعدام بتهمة المساهمة في القتل وقمع مؤامرة الشواف، هُربَّ إلى موسكو من قبل الحزب الشيوعي، ليبدأ صفحة أخرى من حياته. أنهى فيها الكلية التحضيرية للغة الروسية، ثم درس وحصل على الماجستير عن رسالته حول الحزب الوطني الديمقراطي العراقي. نال بعدها شهادة الدكتوراه في الإعلام، وعمل باحث علمي في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية في موسكو، يعيش حاليا في العاصمة السويدية ستوكهولم.
فرات المحسن: الدكتور خليل عبد العزيز، هل لك أن تعطينا صورة عن نمط العلاقة التي كانت تربط بين بلدان جنوب الاتحاد السوفيتي السابق، بلدان أواسط آسيا المسلمة وأيضا القوقاز بسلطة الاتحاد السوفيتي.
* كانت بلدان أواسط أسيا المتمثلة بقرغيزيا واوزبكستان وتركمستان وكازخستان وطاجكستان أقاليم وبلدان تابعة للقيصرية الروسية وبعد قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى،صدر عن قائد الثورة فلاديمير لينين نداء وجهه لتلك البلدان وقدم لهم فيه وعودا لنيل الحقوق الدينية والمدنية وفي مقدمتها الحق في تقرير المصير. كانت تلك البلدان الفقيرة المتخلفة ترغب التخلص من حكم القيصرية الروسية، لذا كان البيان وما جاء فيه من وعود عاملا مهما ودافعا لانضمامها إلى الاتحاد، وتأييدها للثورة بقيادة لينين . ومنذ عام 1924 وهو عام تأسيس الاتحاد السوفيتي حتى عام 1936 انضمت للاتحاد أغلب بلدان أواسط آسيا.
خلال تلك الفترة حدثت الكثير من التغيرات وبدأت تظهر نزعات الأثرة والتفرد والمركزية في الحكم، فالمعروف عن الاتحاد السوفيتي ومنذ تأسيسه أعتمد قادته على نظام حكم الحزب الواحد الذي أُعتبر الممثل الحقيقي والوحيد لإرادة الشعوب الحرة. وعلى عهد ستالين بات الاتحاد السوفيتي دولة موحدة بسلطة مركزية بطابع شمولي، وابتعدت السلطة عن الأخذ برأي الجمهوريات ذات القوميات غير الروسية، وظهرت بوادر الشك والريبة من طموحات شعوب الجمهوريات الاتحادية، والخوف من تحركها نحو المطالبة بالاستقلال، وعلى هذا الأساس عملت السلطات الاتحادية على تسويف وتسويق الشعارات للإبقاء على الأوضاع مع بعض التغييرات السطحية الشكلية، وفي الوقت نفسه بقيت جميع إدارات السلطات في تلك البلدان تحت سطوة قيادة مركز الاتحاد،وكان العمل يتم وفق جانبين أو أسلوبين للعلاقة، الأول الحفاظ على كيان الاتحاد السوفيتي بوجود جميع الجمهوريات المرتبطة بينها بعرى قوية مثلما يظهر للعيان، وعلى أساس التكامل الاقتصادي بينها، والثاني يتم بإعطاء تلك الشعوب بعض الحقوق التي كانت تمنح لها بالقيراط والأقساط، في الوقت الذي يتم انتهاج أساليب إدارية وسياسية تضيق الخناق وتحد من ظهور طموحات سياسية للاستقلال.
فرات المحسن: ما الذي جعل تلك العلاقات تتغير على هذا النحو، هل كان نداء لينين لبلدان أسيا الوسطى المسلمة دون جدوى أو الأحرى خدعة سياسية؟
* كان نداء فلاديمير لينين لشعوب الشرق وبالذات الإسلامية منها حول الحريات وحق تقرير المصير، فكرة صائبة ونبيلة ولم تكن من باب الترف والخداع السياسي، فالرجل كان ماركسيا يؤمن بتلك الأفكار وجوهرها النبيل في حق الشعوب بنيل الاستقلال والكرامة الإنسانية. ولكن بعد وفاته واستلام ستالين الحكم تغيرت اتجاهات واستراتيجيات السلطة ونحت منحى السيطرة الكاملة على مقدرات تلك الشعوب، وتم اختزال الإدارات والسلطات بيد الأمين العام والمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، وبالذات منها إدارة حكومات تلك الجمهوريات،وباتت قيادات الحزب الشيوعي المنفذة لتعاليم قيادة مركز الاتحاد بقيادة الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي، تسيطر بالكامل على مقدرات شعوبها، مقصية في حرب مستمرة ومستعرة كل ما يتعلق بفكرة حق تقرير المصير.
وكمثال على تلك العقلية الاقصائية، فأن لهذه العنجهية القومية أو ضيق الأفق القومي، امتداد واسع ليس فقط داخل القيادات العليا للحزب الشيوعي بل هناك ذات التصورات والقناعات عند الكثير من المواطنين السوفيت، وبالذات الروس منهم، وتتمثل بنظرة تعالي تتهم الشعوب ذات الأصول غير السلافية ومنها بلدان جنوب الاتحاد السوفيتي والمسلمة منها بالجهل والتخلف. ونلاحظ إن هذا يمتد حتى وقتنا الحاضر.فالرئيس بوتين أنتقد فكرة حق تقرير المصير التي طرحها لينين. فهو يرى أي بوتين، إن مثل هذا الحق الذي تحدث عنه لينين لا يمثل الحقيقة، وإن تلك الشعوب التي عناها في نداءه لم تكن شعوبا متحضرة ولا تملك إدارات أو قدرات بناء دولة جديدة، والروس أو الاتحاد السوفيتي هو من بناها كدول ووضع لها قواعدها الاقتصادية والعلمية والسياسية ومنح شعوبها حقوقها المدنية وعلمها أعراف الديمقراطية والبناء الحضاري.
فرات المحسن: هل لك أن تقدم لنا ما يفصح عن تلك العلاقة الملتبسة أو المشوهة التي كانت تسير عليها مؤسسات الاتحاد ؟
- كنت أعمل صحفيا في وكالة نوفوستي للأنباء، وطلب مني أن أعمل تحقيق أو ريبورتاج صحفي عن مصنع للطائرات موجود في طاشقند عاصمة أوزبكستان.ذهبت إلى هناك. كان مدير المعمل أوزبكيا وقد رحب بي أيما ترحاب وسألني عن مهمتي ثم أراد معرفة جنسيتي، فأخبرته بأني من العراق فدهش وبفرح قال بلهجة مفخمة إذن أنت مسلم، فأجبته بأني شيوعي ولا علاقة لي بالدين، ولكنه تجاهل ذلك وراح يتحدث عن الإسلام وموقعه في أوزبكستان وعلاقته الروحية ومكانته عند هذا الشعب وقال، رغم كوني شيوعيا ولكن لنا نحن الشعب الاوزبيكي تقاليد راسخة وحيوية بالدين الإسلامي. أردت تغيير وجهة الحديث فشرحت له مهمتي وسألته عن مصنع الطائرات فتحاشى أسئلتي وراح يتحدث من جديد وبنشوة عن الإسلام والمسلمين في العالم ثم العراق. وبعد وقت ليس بالقليل أخبرني بأنه سوف يقدمني لمعاون مدير المصنع، فهو الذي يستطيع تلبية حاجاتي ويجيب عن أسئلتي، فهو يعرف كل شيء عن المصنع .
كانت جنسية المعاون هي الروسية، وحين قابلته أخبرني بحقيقة صادمة عن مدير المصنع قائلا، إن المدير واجهة شكلية لسياسة عامة ولا يملك الكثير من السلطة الإدارية، وغالبا ما تحصر مهامه باستقبال وتقديم الشاي للضيوف والدردشة معهم بأحاديث دائما ما تكون بعيدة عن طبيعة العمل.
في جولة طويلة في أنحاء المعمل كان المعاون يقدم لي بالتفصيل معلومات كثيرة وجيدة عن طبيعة العمل والإنتاج ، ولكنه توقف لمرتين أثناء ذلك ليخبرني بأنه يتلقى إشارات بالسبايكر من المدير، ويعتقد أنه يرغب أن تعود أليه ليكمل معك الحديث السابق. وفعلا بعد أن أكملنا الجولة ورجعنا إلى المقر طلب مني المدير الجلوس لإكمال ما سبق وتحدثنا حوله، فشكرته على كل شيء واعتذرت منه لضيق الوقت، ووعدته بلقاء أخر. مثل هذا النموذج القائم في مصنع الطائرات كان موجودا في جميع المصانع والمؤسسات المنتجة لا بل حتى في دوائر الدولة المهمة وأيضا العادية، أي يوضع مدير عام من نفس سكان الجمهورية الاتحادية ولكن السلطة الحقيقية تكون بيد المعاون وهو روسي الجنسية ويتمتع بجميع الصلاحيات، وفي النهاية فهو الوحيد صاحب القرار الأعلى، وقد بقيت هذه السياسة متبعة إلى يوم انهيار الاتحاد السوفيتي، وقد تلمستها ووجدتها أينما ذهبت وفي جميع مؤسسات جمهوريات الاتحاد السوفيتي. فهناك قاعدة أطلاق الصواريخ في كازاخستان جميع العاملين الأساسيين فيها فقط من الروس ولا يوجد أي شخص من خارج القومية الروسية يعمل في المراكز الحساسة لهذا المرفق .ومثل ذلك مصانع للحاسوب في أرمينيا وغيرها.
فرات المحسن: يا ترى ما هي الأسباب والدوافع لمثل هذه التركيبة الغريبة للإدارة ؟
* في اعتقادي، كان الهدف من كل ذلك، وضع تلك الشعوب تحت سيطرة السلطة المركزية أولا ثم إبقائهم على ذات الحدود المسموح بها من المعرفة والمهنية والإدارة، وكانت تلك في مجملها سياسة تؤدي لوضعهم دون المستوى الذي يتناسب والشعوب المتحضرة المكتملة البنيان. ورغم التحسن في البنى التحتية والعمران الحديث وارتفاع الدخل القومي وتطور قوى الإنتاج، فقد كان يرافق كل ذلك عقلية روسية تبخس حقوق وتطلعات وطبيعة مواطني تلك الجمهوريات، وتنظر لهم بنظرة فوقية واستخفاف، وتعدهم دون مستوى التحضر مقارنة بالروس .
أصبح مفهوم الصداقة بين الشعوب شعارا شكليا على عهد ستالين ومن جاء بعده من قادة، وكانت بين القيادة السوفيتية المركزية وقيادات تلك الشعوب ما يشبه الاتفاق على بناء الروابط التي تبدأ أولا بحصول تلك الشعوب على بعض الحقوق القومية والمدنية على أن توفر تلك القيادات الفرعية الآلية لمجرى عملية التكامل الاقتصادي والاستفادة القصوى من خيرات تلك البلدان لصالح عموم الاتحاد السوفيتي.ولكن للحقيقة فقد كان هناك هدفا مخفيا يذهب للاستفادة من خيرات تلك الشعوب وفي الوقت ذاته يحد أو يبطأ تكامل البناء الحضاري لها.
فالفروق كانت واضحة في مستوى التقدم العمراني والثقافي ما بين الجمهوريات الاتحادية الشمالية مثل روسيا وروسيا البيضاء واوكراينا ودول البلطيق الاتحادية وبين دول آسيا الوسطى والجمهوريات الجنوبية الأخرى مثل جورجيا وأذربيجان وأرمينيا . فالقيادة السوفيتية كانت تتهيب من تطور جمهوريات الاتحاد الجنوبية خوفا من بروز النزعات القومية ومن ثم تمردها على السلطة المركزية ومطالبتها بالاستقلال وانسلاخها عن الاتحاد.
فرات المحسن: ربما ينتبه المرء لتعلق شعوب تلكم البلدان بالدين الإسلامي كحالة وجدانية روحية.ما حقيقة هذا الآمر؟
* كمثل على هذا التعلق أذكر لك شخصية درست لمدة خمس سنوات في جامع الأزهر في مصر،ومن ثم أصبح بعدها مفتيا للديار في عموم جمهوريات آسيا الوسطى الاتحادية،وهو ضياء الدين باباخانوف، كان هذا المفتي وفي اغلب زيارتي له يفضل أن نبدأ حديثنا بتناول أقداح الشراب، فينادي على أبنه شمس الدين الذي أصبح لاحقا سفيرا لروسيا الاتحادية في الكويت، ويشير له بجلب زجاجة كونياك، عندها يأخذ المفتي بتقديم البيالا وهي قدح تقليدي أوزبيكي لشرب الكحول. كان باباخانوف رجلا شيوعيا وملتزما حزبيا ويتبع تعاليم القيادة السوفيتية بصرامة لا يحيد عنها.
خلال حديثنا اخبرني المفتي عن وجود ما يقارب 40 إلى 50 مليون نسمة من المسلمين يعيشون في جمهوريات آسيا الوسطى، وعن موقف هذه الملايين من الدين الإسلامي، حدثني قائلا، إن هناك موقف مودة وحب واحترام عظيم للدين الإسلامي لدى هذه الملايين ، ولكنهم يخشون بل يخافون من الحزبيين ورجال الأمن والواشين، ورغم هذا الخوف فالغالبية تتمسك بإسلامها. وروى لي كيف أن العديد من المنتمين للحزب الشيوعي يتهيبون الحديث بالسوء عن الاتحاد السوفيتي والحزب، حفاظا على مواقعهم الحزبية والوظيفية، ولكنهم في البيوت يتحدثون بأقذع الأوصاف والشتائم ضد الدولة السوفيتية والقيادة، وينعتوهم بالكفر والإلحاد، رغم إن غالبية هؤلاء لا يعرفون الكثير عن الإسلام، وليس بينهم من يعرف تلاوة القرآن أو فك رموزه، ولكن كل ذلك كان يأتي كجزء من العداء لسلطة الحزب الشيوعي وأوامره القسرية .
فرات المحسن: ما الذي كانت تقدمه تلك الجمهوريات الاتحادية للاتحاد ؟
كان العديد من جمهوريات الاتحاد ومنها الجمهوريات الجنوبية ترفد الاتحاد بالكثير من المنتجات الزراعية وغيرها من الخيرات الطبيعية مثل النفط والغاز الطبيعي والحديد والنحاس والرصاص.وتشكل منتجات تلك البلدان أكثر روافد اقتصاد الاتحاد السوفيتي .
فمثلا أوزبكستان كانت تعد أحد أهم البلدان في أنتاج القطن عالي الجودة ،ويسمى الذهب الأبيض لغزارته وما يدره من مبالغ لاقتصاد الاتحاد.وفي عمليات حصاد هذه الغلة توظف جميع الطاقات في طاشقند وتشارك في جني المحصول مؤسسات الدولة وباقي قطاعات العمل والطلاب أيضا، ولكن دائما ما كانت تجري عملية مخادعة وتضليل في حساب المحصول. فالقيادة العليا للحزب الشيوعي السوفيتي تطلب من قيادة الحزب في طاشقند كمية برقم حسابي محدد، وعند ذلك وبعد عملية جني المحصول وحين تفشل الجهود في الحصول على ما يساوي الرقم الذي طلبته قيادة الحزب العليا ، تقوم قيادة الحزب في طاشقند كمحاولة لإرضاء المسؤولين بتسجيل ذات الرقم المطلوب لإقناع القيادة بنجاح زراعة القطن ووفرته. وجميع الجمهوريات الاتحادية تقدم منتجات زراعية وصناعية لترفد بها المنتج الوطني على مستوى الاتحاد، وتجدها تمارس في جني الإنتاج ذات عملية الغش في الحساب النهائي وهي عملية غش يترتب عليها حصول البعض على وسام الحزب والدولة لأبطال للإنتاج.
فرات المحسن: وما هي الأسباب لمثل هذا العمل غير المهني والخداع غير العملي والمضر في حساب المنتج؟
* عملية المخادعة ورفع رقم الإنتاج تأتي بسبب ما تقدمه قيادة الحزب العليا من جوائز تكريمية، عرفانا بما قدمته القيادة المحلية للحزب. وكان مثل هذا يحدث في أغلب الجمهوريات الاتحادية ومع جميع المحاصيل الزراعية واستخراج المعادن أو تصنيعها.
بالنسبة لي فقد شاركت في احد المرات بجني محصول القطن حين كنت في سفرة مع مجموعة طلبة من جامعة موسكو في زيارة لطاشقند،وقد طلبوا منا المساهمة في الحصاد، عندها أعطوني خرجا كبيرا لأجمع فيه المحصول، لم أكن بمهارة أهل طاشقند ولكن لحسن الحظ كان لي حظوة عند بعض الفتيات فأخذن بمساعدتي من خلال وضع بعض ما يقطفنه في خرجي، وبعد الحصاد أقيمت حفلة كبيرة وقدم لي شكر خاص بسبب ما استطعت جمعه وكان حجمه كبيرا.
جميع الجمهوريات الاتحادية كانت تتلاعب بأرقام المحاصيل الزراعية وأيضا إنتاج المواد الأولية لذات السبب أعلاه، والذي يجلب للمنظمة وبعض أعضائها الجوائز السنوية كأبطال للإنتاج.
فرات المحسن: وما طبيعة الجوائز التي تقدمها السلطة السوفيتية عند نهاية السنة الإنتاجية؟
* كان تقليد منح الجوائز يخضع أيضا للمساومات والخديعة، ويتساوق وخدعة رفع أرقام الإنتاج، فالجوائز والمكافأة كانت مغرية ويدور حولها تنافس حاد، فالحصول عليها يعطي للشخص امتيازا معنويا وماديا كبيرا. روى ليَّ أحد قيادي الحزب عن حادث وقع في جمهورية أوزبكستان، حيث تقدم أحد المنتجين من الذين نالوا استحسان القيادة وحققوا أرقاما عالية تؤهلهم لنيل وسام لينين كواحد من أبطال الإنتاج، تقدم المزارع نحو سكرتير الحزب شرف رشيدوف ليستلم الجائزة فما كان من الرئيس وقبل تقليد الوسام، أن اخبر المزارع بأن هذا الوسام ليس دون ثمن، وعليك أن تتذكر ذلك جيدا، فهذا التكريم له مقابل. وهذا ما فعله المزارع لاحقا، حيث جمع ما قيمته خمسين الف روبل وقدمها إلى رشيدوف مقابل حصوله على وسام لينين.
وسام لينين كان يعني الكثير ماديا ومعنويا. معنويا يقدم للشخص الاحترام والتقدير في جميع المناسبات، ويتقدم على الآخرين في المواقع، وقيمة الوسام المادية كبيرة أيضا، فصاحب الوسام يستقل مجانا ومدى الحياة جميع وسائل النقل برا وجوا، ويمنح أيضا أفضلية الحصول على سكن، وقبل كل ذلك يحصل على مبلغ نقدي يتراوح بين 200 إلى 300 ألف روبل. ومثل ذلك كان يحدث في باقي الجمهوريات ولمختلف المنتجات الزراعية والصناعية والاختراعات.