تداعيات ليلية من وحي ٨ شباط ١٩٦٣
قراءة قد تكون متأخرة وتساؤلات مشروعة عن ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم في تاريخنا العراقي المضطرب . الذي يشهد تاريخاً موغلاً بالقدم في القساوة والعنف . في التاريخ السياسي العراقي الحديث ثمة منعطفات وحيثيات ومواقف رسمت خارطة البلد المتقاطعة في الرؤى والمسميات … وما ألت اليه اليوم الاحداث باتت الصورة واضحة الابعاد والمسافات .
كيف تمكن البعثيون في ليلة ويوم .. حفنة من العسكر بالقضاء على ثوار تموز ؟.
لماذا أغلب الضباط الشيوعيين والقاسميين واليساريين جلسوا ببيوتهم عند سماعهم نبأ بيان الانقلابين .. وهم الأعلم بمصير مصيرهم ؟.
قادة الحزب الشيوعي وكوادره … لماذا سلموا نفسهم بهذه الطريقة الى مسالخ قصر النهاية واللجنة الاولمبية وسجن بغداد .. وهم الأدرى بنوايا البعثيين في تصفيتهم جسدياً ؟.
هل كان ظهور الزعيم في مبنى الصالحية مع رفاقه مضرجاً بالدماء ومتدليا من الكرسي .. اعلان عن نهاية المقاومة ضد البعثيين والانقلابين ؟.
هل كان باستطاعة الشيوعيين لكثرة جماهيريتهم ومؤيديهم بأخذ زمام المبادرة في ذلك اليوم والظفر بالسلطة … وما كشف عنهم خمسمائة ضابط بين منتمي ومؤيد بكافة الصنوف ؟.
لماذا لم يعزل الزعيم قاسم عن مهامه لكثرة تخبطاته .. وتفويت الفرصة على الانقلابين بعد أن كشفت نواياهم بتحركاتهم المشبوهة ؟.
في فجر ذلك اليوم العاثر .. الجمعة ٨ شباط عام ١٩٦٣ .. أذيع البيان الأول للانقلابين من مرسلات الاذاعة في أبي غريب بعدما كانت طيلة أيام ثورة تموز تحت سيطرة الكتيبة الرابعة كتيبة المثنى للدبابات تحت سيطرة الشيوعيين المتمسكين بالزعيم .. لكن الزعيم وتقلباته وتوجسه من سياسة الشيوعيين بتأثير ودفع من الضباط القوميين الذين ألتفوا حوله , وظهر جلياً هذا موقفه في خطبته الشهيرة في كنيسة مار يوسف عام ١٩٥٩ . أستهدف في حديثه الاحزاب , وكان يوجه كلامه الى الشيوعيين واضحا في تقصدهم .
في منعطف خطير من التنابزات السياسة عين خالد مكي الهاشمي القومي وبعثي الهوى أمرأ لكتيبة الدبابات في أبي غريب ومساعده خالد حسون فريد … وأراد من تلك الكتيبة حول وصيته لهم تطهيرها من الشيوعيين حسب ما ذكر جاسم العزاوي في مذكراته . لكنه لم يفطن أنها ستكون بداية النهاية لحياته وحياة صحبه .
ساعة صفرهم .. أعلنت باغتيال قائد القوة الجوية الطيار الشيوعي جلال الاوقاتي … غار سرب من الطائرات على مواقع وزارة الدفاع ومعسكرات الوشاش والرشيد .. قائدها منذر الونداوي .. في سنوات لاحقة أعترف قائلا .. في الساعات الاولى كنا مربكين ومعرضين الى الاندحار , لكن ضعف المقاومة من رجال قاسم والضباط الشيوعيين ترك لنا زخماً في المضي للانقضاض على قاسم وحليفه الشيوعيين .. مرة سألت أحد الضباط الشيوعيين المحالين على التقاعد في الوجبة الاولى مع الزعيم داود الجنابي .. الراحل الخالد أبو ظافر الصكر .. قائلأ حيث لم يترك لنا الزعيم حتى فرصة في الدفاع عن أنفسنا .. فعلى من كانت المراهنة عليه , ورائحة المؤامرة قد فاحت .
لم أعثر في قراءاتي بدفاتر القادة الشيوعيين ممن عاصروا تلك المرحلة وخيباتها تبريراً واحداً مقنعاً للقاريء وللتاريخ .. لماذا استسلموا بهذه الطريقة الى غربان البعث وقطيع القوميين , بقوا جالسين في بيوتهم وهم الادرى بمصيرهم الحتمي الى سبيل الموت .
أين كنا وما هو دورنا من يوم ٨ شباط ١٩٦٣ الى ١٧/٣٠ تموز عام ١٩٦٨ وكان وضع العراق مضطرب والصراع دموي بين البعثيين والقوميين وبدون قاعدة شعبية تذكر لهم .. كانت لنا فرص في أستلام السلطة ؟. ولماذا لم نستثمرها ؟. هل كانت خطة الشيوعي المخضرم زكي خيري والتي وضعها أمام باقر أبراهيم في الفرات الوسط باستخدام عربات القطارات في الانقضاض على حكومة البعث قبل ١٨ تشرين محاولة عبد السلام عارف باستلامه السلطة مجدية , ويكتب لها النجاح .
مجيئ البعثيين مرة أخرى للسلطة عام ١٩٦٨ بلا قاعدة شعبية ولا اعترافات دولية , بل ثمة مشاكل داخلية في مقدمتها الملف الكردي , فاضطر البعثيين اللجوء للشيوعيين في تشكيل جبهة وطنية تحت يافطة جملة خطوات لا تستدعي أن تعقد حلف معهم . أطلاق سراح السجناء وإعادة المفصولين والاعتراف بدولة ألمانيا الشرقية وعقود مع دولة بولندا وعلاقات واتفاقات اقتصادية مع الاتحاد السوفيتي , فجملة تلك الخطوات لا تستدعي قيام جبهة ومازالت دماء الشيوعيين تنزف ولم تجف بعد . خطوة ( كوسجين ) رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي بأتجاه دفع وتسريع الشيوعيين على عقد الجبهة لضمان عقود اقتصادية على حساب مواقف وسياسات ومصير شعب ومبادئ . في تلك الفترة برز تنظيم القيادة المركزية ليعلن الكفاح وأسقاط حكومة البعث ودكوا مواقع السلطة في شوارع بغداد وتشكلت مفارز الشيوعيين في الاهوار … هل كان يفترض من أعضاء اللجنة المركزية تحتوي تلك الازمة ولا تضحي بخيرة كوادرها لتشكل عامل ضغط كبير باتجاه مزيداً من التنازلات من سلطة البعث في مجال الحرية والديمقراطية وليس الموقف المتفرج على ذبح رفاقهم في المسالخ ( متي هندو , أحمد محمود الحلاق ) . مما أستغل البعثيين هذا الصراع الداخلي لغرض أجندتهم.