دستور تونس الثورة: تنفيذ دون المأمول … العديد من فصوله وأبوابه تنتظر التجسيم
يحيي التونسيون الذكرى الخمسة لولادة دستور الجمهورية التونسية الثانية، حيث صادق المجلس الوطني التأسيسي، وبأغلبية مطلقة، يوم 26 جانفي 2014 على دستور البلاد الجديد، على إثر مخاض سياسي وقانوني عسير تواصل أكثر من عامين، في صمت مريب … صمت يدفع لطرح أكثر من تساؤل حول مدى تطبيق مختلف أجهزة الحكم لفحواه ، في ظل مشهد سياسي غير مستقر تتقاذفه التجاذبات الحادة أحيانا والتي تمسّ من استقرار الأنموذج الديمقراطي التونسي، قبيل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة . اذ لا تزال غالبية بنوده لم تجد طريقها بعد إلى التنفيذ، بل إن ما يناهز نصف بنوده مهجورة والنصف الآخر من أحكامه ما زالت حبراً على ورق ، وما زالت أحكامه حبيسة لم تر النور بعد ، وسط مشهد سياسي مرتبك ووضع اجتماعي متأزم يخفي صراع الصلاحيات بين السلطات المؤسسة لنظام الحكم الجديد وشرخاً عميقاً بين الحساسيات الحزبية والأطراف الاجتماعية
بنود الدستور… بقيت حبراً على ورق
لقد هلّل التونسيون لدستورهم الجديد الذي نص على مبادئ القطع مع الاستبداد وحماية الحقوق والحريات والكرامة الوطنية، وعلى ترسيخ نظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية، السيادة فيها للشعب عبر التداول السلمي على الحكم بواسطة الانتخابات الحرة، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات وتكريس التوازن بينها. وبعيداً عن التباهي بهذا الإنجاز، و حسب خبراء القانون فان ما يُعاب على السلطات التونسية بعد مرور خمسة سنوات من المصادقة على الدستور، عدم انتخاب محكمة دستورية للفصل في العديد من المسائل الحارقة والتي تستوجب هيكلا رسميا للبت فيها ، ولنا في ملف قانون المصالحة مثالا حيا فالمحكمة الدستورية ليست الاستثناء الوحيد اذ لم تر العديد من الهيئات الدستورية النور رغم حاجة البلاد إليها على اعتبار أهمية دورها التعديلي والرقابي ، كهيئة حقوق الإنسان وهيئة حماية حقوق الأجيال المقبلة
هيئة الاتصال السمعي البصري، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومقاومة الفساد، بالرغم من أنّ البرلمان شرع في إجراءات الانتخابات أو بصدد مناقشة قوانينها .
ولا
يجب ان يحجب الحديث عن الهيئات الدستورية جملة من المبادئ العامة التي حرص من
سنّوا الدستور الجديد على تضمينها ومنها مسألة الحكم المحلي واللامركزية والحفاظ
على البيئة وإيلاء عناية خاصة للموارد المائية وللأطفال وللمعوقين وللأسرة وللصحة
وللعاطلين عن العمل وفق ما نص عليه الفصل 40 من كون العمل حق لكل مواطن
ومواطنة، وتتخذ الدولة التدابير الضرورية لضمانه على أساس الكفاءة والإنصاف.
والحديث عن الفصل 40 يقودنا حتما الى الفصل 10 من
الدستور المتعلق بالجباية معتبرا أن أداء الضريبة وتحمّل التكاليف العامة واجب وفق
نظام عادل ومنصف، وان على الدولة أن تضع الآليات الكفيلة بضمان استخلاص الضريبة
ومقاومة التهرب والغش الجبائيين و على الدولة آن تعمل على منع الفساد وكل ما من
شأنه المساس بالسيادة الوطنية.
لكن بعد خمس سنوات من بدء العمل بالدستور الجديد يبدو
ان لا شيء كبيرا تغيّر رغم تعاقب الحكومات وتغيير تسمياتها فلا يزال اقتصادنا في قسم الإنعاش . كما تعالت دعوات سياسية إلى تعديل
النظام السياسي والعودة إلى النظام الرئاسي، بسبب الصعوبات والعراقيل المسجّلة في
تسيير الحكم في سلطة تنفيذية برأسين، يقود جزء منها رئيس البلاد، والجزء الآخر
رئيس الحكومة. كما أظهرت الممارسة السياسية صعوبات واختلالاً في التوازن السياسي
بين السلطة البرلمانية والتنفيذية، ما عطّل إنجاز المشاريع والتقدّم بالبلاد.
ويرجع العديد من خبراء وأستاذة القانون تعطل تفعيل الدستور إلى ما يعرفه المشهد الوطني من تجاذبات، تستبطن، بأشكال مختلفة ، سعي قوى نافذة، سياسياً ومدنياً، إلى حيازة أكبر تمثيل ممكن لها في الهيئات وعلى مستوى السلطات والمسؤوليات. ويرى أن الإرادة السياسية، التي تم التعبير عنها على مستوى الخطاب السياسي في أكثر من مناسبة، لا تتبعها إرادة سياسية حقيقية على مستوى التفعيل.
ويتحمل البرلمان نصيب الأسد في ضياع حلقات الدستور، وتشاركه فيها السلطة التنفيذية برأسيها، أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فيما يمكن تلخيص المطبات في ستة محاور، هي “الكرامة المنشودة”، و”اللامركزية المفقودة”، و”العدالة الاجتماعية المعدومة”، و”الحقوق والحريات المهدورة”، و”الهيئات الدستورية المعلقة”، و”الهيئات القضائية المعطلة”.
وفي ما يخص النقائص، فقد عددها شفيق صرصار أستاذ القانون الدستوري والرئيس السابق للهيئة العليا المستقلة للانتخابات ، في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (وات) على هامش تنظيم ملتقى علمي حول الدستور، نظمته جمعية البحوث حول الانتقال الديمقراطي والمرصد التونسي حول الانتقال الديمقراطي ومركز تونس لمؤسسة فريديريش إيبرت، بمناسبة الذكرى الخامسة لإعلان دستور الجمهورية الثانية بعنوان “الدستور على محك السياسة خمس سنوات على إصدار دستور 27 جانفي 2014″، كعدم تركيز المؤسسات الدستورية وتعطل تطبيق أحكام الدستور، ومن ذلك ما يتعلق بالسلطة المحلية، فلا يمكن الحديث عن سلطة محلية حقيقية في ظل غياب المجالس الجهوية والأقاليم، وفق تعبيره.
كما واعتبر صرصار أن غياب الإرادة السياسية هو السبب الرئيسي في تعطل إرساء مؤسسة المحكمة الدستورية.
دستور الثورة: ديمقراطية تتثبّت رغم العثرات
تعدّ المصادقة على الدستور حدثاً فارقاً في تاريخ تونس “الثورة”، وكان أولى ثمرات الثورة والعقد الذي يربط بين الشعب , الحكام والسلطات .اذ ان ما يُحسب للسلطات التونسية أنها تمكّنت منذ المصادقة على الدستور، من إرساء الهيئة الدستورية المسؤولة عن الانتخابات، ونجاحها في إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية نزيهة مكّنت من تداول السلطة بشكل سلمي وديمقراطي، و إجراء أول انتخابات محلية وبلدية في أيار/ مايو الفارط. وبالتالي تكون قد نجحت أيضاً في تكريس مبدأ اللامركزية الذي جاء في الباب السابع من الدستور . كما تمكّنت تونس من تشكيل “المجلس الأعلى للقضاء” الذي جاء به الدستور لتنظيم السلطة القضائية وضمان استقلاليتها، كما تمّت المصادقة على قانون المحكمة الدستورية في انتظار إرسائها كذلك، شُكّلت “هيئة الحقيقة والكرامة” المسؤولة عن تحقيق مسار العدالة الانتقالية. كما صادق البرلمان منذ انتخابه على عشرات القوانين والاتفاقيات التي نصّ عليها الدستور والتي تكرّس حقوقاً وبنوداً دستورية، كالحقّ في النفاذ إلى المعلومات، ومنع الاتجار بالبشر، والوقاية من التعذيب، وضمان المحاكمة العادلة، وحماية الحريات الفردية .
وحول تقييم وضع الانتقال الديمقراطي في تونس، اعتبر صرصار أن هنالك مكاسب تحققت في البلاد الى حد الآن، ومنها بالخصوص حرية التعبير والدستور الجديد الذي يكرس الحقوق والحريات ويعاقب الاعتداء عليها
وأضاف أن القضاء خرج من سيطرة السلطة التنفيذية، غير أنه اعتبر أنه شهد ثورة منقوصة ولم يتبلور كقوة مستقلة، وفق تقديره
كما اعتبر عبد اللطيف الحناشي، الكتاب والمؤرخ ، أن الدستور يعد” مكسبا كبيرا لتونس” ووصفه ب”دستور القرن 21 في العالم”، لأنه تضمّن فصولا فريدة من نوعها، مقارنة بدساتير أخرى، مضيفا أن الدستور تضمّن العديد من الفصول الفارقة والتقدمية في المنطقة ، مقارنة بدول ما يُعرف ب”الربيع العربي” والتي لم تختر التوافق وإنما انتهجت مسار “الإقصاء السياسي” و”تفرد منظومات الحكم بالقرار الدستوري”، قائلا في هذا السياق: “نعتز بالدستور، بما فيه من نقائص وهو يعد إنجازا مميزا في تاريخ تونس”. ختاما صحيح أن تونس فتحت صفحة جديدة من صفحات تاريخها بميلاد دستور جديد استبشر له الجميع لكن حصيلة الخمس سنوات الأولى تبدو هزيلة على عديد المستويات وأهمها ما كان التونسي ينتظره من تحسين في جودة الحياة ومن وضع الأسس القويمة للانطلاق في مسار ديمقراطي دون رجوع إلى والوراء أو انتكاسات … واليوم ونحن نستقبل سنة . خامسة هى سنة الحسم الانتخابي فان الواجب يحتم السعي إلى ترجمة ما تضمنه الدستور الى واقع ملموس .