تأملات متأخرة في قراءة المذكرات
قال أحد معاوني الرئيس السوفيتي السابق (ميخائيل غورباتشوف) الذي على يده أنهار الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدولة الاشتراكية وحلف وارشو وتهديم جدار برلين وتشتيت اليسار العربي والعالمي. أن غورباتشوف أبلغه ووصل رسالة عن طريقه الى الشعب الروسي، أن لا يتذكروا التاريخ ولا يرجعوا له لأنه كان مزور ومشوه ومسيس بعد ثورة أكتوبر العظمى عام ١٩١٧ بعد موت الزعيم لينين، أطاح ستالين بمنافسه القوي لقيادة الحزب والدولة تروتسكي ولاحقه الى المكسيك وقتله شر قتله، وأبتعد عن ماركسية ماركس في بناء الدولة والمجتمع.
فالتاريخ الانساني يدونه المنتصرون غالباً وفق مصالحهم الخاصة بعيداً عن نضالات الشعوب الحقيقية في الحرية والعيش والنضال، المذكرات تعبير عن السيرة الذاتية للإنسان سواء كان سياسياً أو اقتصاديا أو موسيقياً أو عتالاً وووو . بمثابة صندوق عما أنجزه في مسيرته الحياتية طيلة سنوات نضاله وبحثه وعمله. في سنوات الغربة والهزيمة لم تفك عن ذهني ولع متابعة مذكرات رفاقنا الشيوعيين للأدلاء بتجاربهم الشخصية النضالية والسياسية , ومكتبتي عامرة بلا استثناء بجميع أوراق القادة الشيوعيين , والتي من خلال تلك السير الذاتية يمرون على تجاربهم النضالية السرية والعلنية ومواقفهم ومسؤولياتهم في تحديد الاخفاقات والنجاحات وظروف ملابساتها, وحتى تأخذ السير الذاتية طريقها الصحيح ودوافعها لابد من أن تأخذ المصداقية والشفافية نهجاً لها بعيداً عن العاطفة والمواربة وتمسكاً بالشجاعة والأمانة , فهي تاريخ شعب وبطولات شهداء وسجل ونضالات , لأنه هناك أجيال تنتظر فلابد من أن تطلع وتقرأ من أجل رسم خارطة جديدة ومستخلصة عن تجارب الماضي في خدمة الحاضر ورسم المستقبل . مذكرات قادة حزبنا الشيوعي في الاغلب منها لم تكن بالمستوى الذي تنتظره جماهير الحزب والرأي العام في فضح الاسباب التي أدت الى تعثر التجربة وتخلفها عن سباق الاحداث. لم أجد سبباً مقنعاً واحداً .. لماذا غاب عن برنامج الحزب الشيوعي موضوعة السلطة والظفر بها وهي هدف لكل حزب مناضل ؟ وكشف طبيعة العلاقة مع المركز الاممي (السوفييت) ودورهم في أضعاف قدرات الحزب وفق مفاهيم نظرية ومصالح أبعدتهم عن تطلعاتهم الثورية في تسلم السلطة , ولم يعد هذا الأمر محصوراً بالتجربة الشيوعية العراقية حيث شملت كل الاحزاب الشيوعية والحركات اليسارية في المشرق العربي وغربه , وتجربة مصر نموذجاً. لم تتوقف ولا مرت تلك المذكرات على تفاصيل تلك الاحداث المفصلية في تاريخ الشعوب ومستقبلها .
كتب عزيز سباهي تاريخ الشيوعيين العراقيين اعتمادا على بيانات وشهادات ووثائق وأسانيد ومذكرات ولقاءات . رافقت مسيرة الحزب صراعات فكرية وسياسية أدت الى تكتلات وانشقاقات نخرت جسم الحزب . نموذجاً .. تجربة القيادة المركزية ١٧ أيلول العام ١٩٦٧, ما زلنا الى يومنا هذا ننعيها في أديباتنا السياسية بالانشقاق ونلصقها بشخص عزيز الحاج وتصريحاته على شاشة التلفاز للانتقاص من ظاهرتها والتي ضمت خيرة كوادر الحزب في الاقدام والتحدي . لو أردنا أن ننصفها موضوعياً لا تخرج عن أطار ( انتفاضة حزبية ) أو حركة معادية لسياسة البعث . لماذا لم يتوقف السيد عزيز سباهي بدراسة وقائعها من خلال اللقاءات بكوادرها المتبقية لأنه جزء مهم من تاريخ الحزب ؟. تاريخ كتابة حزب عريق وطويل يحتاج الى لجنة من كفاءات وملاكات ذو باع طويل في النضال حتى ممن أصبح خارج التنظيم وله اعتراضات وخلافات مع سياسة الحزب . هذا تاريخ ملكاً للجميع . تاريخ العراق . أين نحن من مشاكل الحزب الداخلية والصراعات الفكرية التي عصفت به في السنوات الاخيرة ومشكلة مجلة ( النهج ) وتداعياتها ومالية الحزب ومآلها وحجم الاندساسات ومخاطرها غابتا عن ذلك التاريخ .. وعلى مسؤولية من تقع ؟.
قرأت جزء من مذكرات مام جلال المنشورة في جريدة ( الصباح الجديد ) البغدادية , تحديداً الفصل المتعلق بالمفاوضات بينهم وبين نظام البعث لحد سنوات قريبة قبل سقوطه على يد الامريكان , كان الشيوعيين طرف بها وكان المرحوم عزيز محمد محوراً , صحيح هو لم يذهب الى بغداد بالمشاركة مباشرة في المفاوضات , لكنه كان داعم ومؤيد ومتابع لتفاصيل تلك الخطوات حسب اعترافات المرحوم مام جلال . لماذا لم نطلع على تفاصيلها والموقف منها بعد مضي تلك السنيين ؟.
بعد حرب الكويت والانهيار الذي أصاب أجهزة النظام والفراغ الأمني الذي تركه، أستغل قادة الحزب الوضع الجديد بالتسلل الى بغداد , وهذه خطوة تحسب لهم ولتاريخهم , لكن تبين فيما بعد كانت برعاية مخابراتية عبر عميلهم العتيق ( أبو طالب ) , الذي أعدم فيما بعد في الجبل بتأمين شقتين لهم في قلب العاصمة بغداد بالتنسيق مع أجهزة البعث . وعندما تجددت المفاوضات بين القوى الكردية ونظام البعث، سأل وطبان أبراهيم الحسن السيد مسعود البرزاني عن غياب الشيوعيين في المفاوضات , حاول كاكا مسعود أن يبرر له , أنهم مشغولين بالنقاشات عبر الخلايا والهيئات الحزبية للوصول الى قرار , فتفاجأ السيد مسعود بتعقيب وطبان أن قيادة الحزب الشيوعي موجودة في بغداد . فابرق السيد مسعود الى كريم أحمد ليبلغه أن الجماعة يعرفون بالربع في بغداد , فانسحبوا الى الجبل بحجة قرب عقد مؤتمر استثنائي، كما تسرب من بعض المصادر المطلعة .
قرأت مذكرات الركن الثاني , ولكن ليس الهادئ .. خالد علي صالح .. هاني الفكيكي .. حازم جواد .. طالب شبيب . وأخرون. كانوا أكثر جرأة في نقد الذات ( جلد النفس ) . خطأوا كل تلك التجربة البعثية وتحملوا قسطها الاكبر بشكل شخصي بما لحق من حيف وتخلف ودمار بحياة العراقيين واعتذروا من ذلك التاريخ الذي لم يجلب للعراقيين إلا الويلات والألآم . كل تلك الاعترافات والندم لا يبرر تاريخهم وستبقى ندوباً سوداء لا تمحى في مسيرة تاريخهم الشخصي والسياسي .
في تجربة شخصية في اليوبيل الذهبي لميلاد حزبنا الشيوعي العراقي عام ١٩٨٤ أذار , في وادي ( كرجال ) بقاطع سليمانية وكركوك . قمنا كرنفال كبير ومتنوع من مسرح وحفل غنائي وأماسي بمشاركة وفود من أحزاب شقيقة لعدة أيام رغم القصف المدفعي لموقعنا . في يومها يتطاير الرفاق مسؤولي القاطع فرحاً , حاملين الراديو بأعلى صوته صداه يرن في جوف الوادي . أن أذاعه موسكو القسم العربي مرت لمدة ثلاثة دقائق بذكرى المناسبة بتقليب صفحات من تاريخ الشيوعيين العراقيين وفي الوقت الذي تتساقط على رؤوسنا يومياً قذائف رفاقنا السوفييت والالمان الشرقيين . مرحلة معقدة وحساسة بحاجة الى قراءة موضوعية حتى وأن كانت متأخرة أفضل من أن لا تأتي يوماً.
في حديث ودي وصريح مع المرحوم عامر عبدالله في بيته في العاصمة ( براغ ). صيف عام ١٩٨٩ حول أوضاعنا الداخلية قديماً وحديثاً ومستقبلاً . توقفنا عند ثورة تموز وسياسة الزعيم والعلاقة المعقدة مع الشيوعيين وما زالت بحاجة الى فك عقدها، وكان الحديث في حينها حول نيتي باصدار كتاب حول خزعل السعدي .
قال لي … كان خالك خزعل السعدي سبب لنا إحراجات شديدة الحرج هو مطالبته العلنية بعزل الزعيم وأستلام السلطة ورغم حديثنا المتواصل معه بتهدئته ومن خلال القنوات الحزبية ( العسكرية ) الضيقة عبر الشهيد نافع يونس وغضبان السعد وثابت حبيب العاني وعطشان ضيول الازريجاوي لعلاقتهم بخطوط التنظيم العسكري , لكن خزعل كان لا يكل في مطالبته وجديته في الاقدام على المبادرة , حتى تجاوز الخطوط كلها بعد حركة عبد الوهاب الشواف عام ١٩٥٩ وذهب بملابسه العسكرية مع رفيقه خليل العلي أمر الكتيبة المدرعة الثانية الى مقر جريدة الحزب ( أتحاد الشعب ) مطالبين بضوء أخضر من قيادة الحزب بعزل الزعيم قاسم لإنقاذ العراق وشعبه من كارثه محدقة، كما وقع لاحقاً في يوم ٨ شباط عام ١٩٦٣, ويكمل حديثه معللاً الاسباب الى الزمن الذي كنا به أمام خيارات صعبة بسبب تبعيتنا للسياسة السوفيتية وتقييد حركتنا أي بمعنى الالتزام الكلي بما يصدر منهم من إملاءات نحن ملزمين بالتقيد بها لجملة أسباب داخلية وخارجية , موضوعية وذاتية . واحتراماً أي خضوعاً للوصايا السوفيتية لم يدر في بالنا ولا حتى يأخذ الموضوع نقاشاً موسعاً في اجتماعاتنا في أستلام السلطة وتفويت الفرصة على أعداء الثورة رغم شعورنا باليأس من سياسة الزعيم قاسم وتذبذبه بين الاطراف المتصارعة . عامر عبدالله يعتبر المفكر الوحيد التي أنجبته الحركة الشيوعية في العراق بما يتمتع به من مؤهلات ثقافية وفكرية وسياسية ورسم سياسات مستقبلية لحركات البلدان والشعوب . قد يشار له باليمينية من رفاقه ومعاصريه ومتابعيه , لكنه يبقى موسوعة فكرية عالمية . في عيشي الطويل بمملكة السويد ومن خلال قراءاتي لبرامج الاحزاب السويدية الثمانية والمصنفة والمقسمة بين اليمين واليسار . فأنها من حيث المبدأ والبرامج وألية التفكير أنها تصب في بوتقة واحدة والذي وقع أخيراً في التشكيل الحكومي الجديد بعد أن تعرقل لمدة ١٣١ يوماً , عادوا وعقدوا ( صفقة ) بزنس أقصى اليمين مع أقصى اليسار وأقصوا أحزاب يمينية ويسارية من التشكيلة الجديدة .
تحياتي وتقديري لهذا المقال
دمتم بخير وبتواصل مع هذه الذكريات النضالية