يوري نجيبين بين الرواية والقصة وكتابة السيناريو
بقلم: ي.غ. موشينكو
ولد يوري مارکوفيتش نجيبين في موسكو في عام 1920 في واحدة من أكثر زواياها شعرية و«أدبية». في حي تشستِي برودي (البِرَك الصافية) الذي ارتبط به في الأدب الوطني اسم ميخائيل لولغاكوف ومن ثم اسم يوري نجيبين نفسه الذي أصدر في الخمسينيات مجموعة قصص قصيرة بعنوان «تشيستِي برودي».
لم يكن طريق نجيبين بالبحث عن نفسه وعن مكانته في الأدب بسيطاً. فقد كان في البداية مولعاً بكرة القدم ثم تركها ودرس لبرهة من الزمن في معهد موسكو الطبي الأول وفي معهد السينما في كلية السيناريو حتى بداية الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية) وأتقن في الحرب وبعدها العمل في مهنة الصحافة، في البداية في صحيفة «ترود» ومن ثم في الدوريات الأخرى. تحدد مصيره اللاحق بفضل تعَرُّفَه على ف. كاتايف ويو. اليوشا وأندريه بلاتونوف وبفضل نشره في مجلة «اوغونيوك» (الشعلة) لقصتة القصيرة الأولى «خطأ مزدوج».
ومنذ عام 1956 صارت قصص يوري نجيبين وقصصه القصيرة تنشر في الصحافة بانقطاع غير طويل لسنتين او ثلاث: في عام 1956 – قصة «السعادة الصعبة»؛ 1959 – قصة «بافليك» و«السفارة العظيمة»؛ 962 – «صفحات من حياة تروبنيكوف»؛ 1964 – «بعيداً عن الحرب»؛ 1967 – «مملكة النساء».
عمل يوري نجيبين في وقت واحد كاتب سيناريوهات (مثل سيناريوهات أفلام «الرئيس» و«المدير» و«مملكة النساء» و«الخيمة الحمراء»، و«تشايكوفسكي»-مشاركة) وكاتباً مسرحياً (مسرحية «نساء مدينة سودجا» – مشاركةً)، بل حتى كاتباً لنصوص الحوار في الأوبرا (لأوبرا مولتشانوف «النساء الروسيات»). يبدو أن رحلاته في البلاد (الى محافظة كورسك وميشيرا ودونباس ودول البلطيق ومحافظة لينينغراد) حددت الشيء الرئيس في إبداع الكاتب: إذ أبدت له الحياة اشكاليات أعماله وأبطال نتاجاته، وليس من باب الصدفة أن يكرر دائماً، أن قصصه وقصصه القصيرة هي «سيرة حياته الحقيقية».
أصدرت دار نشر «الأدب الفني» في عام 1980-1981 قصصه وقصصه القصيرة في أربعة مجلدات وكان ذلك حصيلة مميزة لتلك المدة من إبداعه التي وصفها الكاتب بخدمة الحقيقة المقدسة. كانت الثمانينيات – محاولة لكسر أغلال الحاضر وإطلاق العنان للخيال ليغور في أعماق الماضي السحيق نحو مصائر الناس الاستثنائيين الذين أغرقهم نهر الزمن. وهكذا ظهرت سلسلة نتاجات عن كتّاب وملحنين وموسيقيين جمعها في عام 1985 في مؤلَّف واحد تحت عنوان «جزيرة الحب» وعندما شدّ يوري نجيبين رحاله بهدوء سائراً في القرون من القرن السابع عشر وحتى القرن العشرين، بين شخصيات كان صداها وامكنياتها متنوعاً للغاية، فإنه كان ينشد في مواقفهم الحياتية وبعض سلوكياتهم ما يرفعهم عن الابتذال ويوصلهم الى الخلود. إن موضوع الاصطفاء الروحي للشخصية واستعدادها لحمل هذا الاصطفاء رغم صراخ الرعاع -متشرب في هذه السلسة من قصص نجيبين وقصصه القصيرة. وتمثل نهاية الثمانينيات قمة إبداع يوري نجيبين. إذ عمل بنشاط في السينما (شارك في إخراج أفلام «زائر الليل» و «الصبية والصدى» و«ديرسو إزالا» (الذي نال جائزة الأوسكار) و«لقاء متأخر») وفي التلفزيون (أعد برامج دراسية حول إبداع ميخائيل ليرمونتوف و نيكولاي ليسكوف وس.أكساكوف وي.أفينسكي) ونشر الكثير من المقالات الصحفية والنقدية الأدبية.
أصدرت مجلة «يونوست» (الشباب) في عام 1987 قصة «انهض وأذهب» التي كشفت للقارئ جانباً جديداً من موهبة يوري نجيبين: تناولت القصة موضوعاً مهماً لنثر الثمانينيات – وهو موضوع الكولاغ (معسكرات الاعتقال)، لكن الكاتب طرحه وفقاً للقواعد الكلاسيكية لرومانسية القرن التاسع عشر. إنَّ السيكولوجية الدقيقة التي تكشف جدلية روح صبي يعاني من انهيار تصوراته عن السعادة والعدل بعد أن خان أبيه ونفسه ذاتها وأدرك بصورة مأساوية استحالة إلغاء تصرفاتنا السابقة، تمتزج (تلك السيكولوجية) في القصة بأقصى حد من الصدق في الاعتراف وبلا هوادة في الخطاب لأخلاقي.
كتب القصة على لسان الشخص المتكلم الأول كذكريات عن أبيه الذي كان بالنسبة لأبنه الصبي البالغ 7-8 سنوات تجسيداً للمثُل العليا: إنه «رياضي وعدّاء وباسل وبطل وظريف ومنتصر، بكلمة واحدة، أب اعتيادي من النوع الموجود لدى كل صبي والذي لا يمكن إلا أن يُحَبّ، والذي لابد أن يثير الإعجاب». ولأن الطفل يربط بين أبيه الواقعي والصورة الأسطورية لحبه فإنه يفهم الاعتقال الأول واللاحق لأبيه في بادئ الأمر كاستمرار للأسطورة. وبعد أن يكبر ويخفي عن إدارة الجامعة وعن أصدقائه حقيقة كون أبيه محكوم ومعتقل سياسي يبدأ البطل الراوية يدرك شيئاً فشيئاً حقيقة الأمور ويرى بوضوح مأساة أبيه وعمق هاوية سقوطه. فمنذ أول خوف له بمواجهة الحياة («وأنا في سن التاسعة من عمري انحنيت أمام ثقل الروح») وحتى أول «خيانة تخيلتها» (بعد الاعتقال الثاني للأب في عام 1937، عندما سمع الصبي طرق الباب في الليل هَمَسَ بدعاءٍ ابتدعه: «يا ربِ الحبيب، … لا تدعهم يأخذوني، ليأخذوا أمي وحدها فقط، يا إلهي الحبيب لا تدعهم يأخذوني») والى الهروب من الواجب (بسبب الموت الذي يهدد الأب، كان الابن يخاف الذهاب الى والده الذي كان بحاجة أن يشعر في مأساته «بوجود روح قريبة منه عزيزة عليه والذي خدعته آمال الخواطر التي جالت بقلبه الذي صدقها) – هكذا كان صعباً طريق إدراك بطل نجيبين للحقيقة.
تنتهي القصة بمقتطف من المذكرات في يوم وفاة الأب في الرابع من نيسان عام 1952: توفي الأب.
اجل، وهل يمكن القول «أب»، عندما يسير الأمر حول شخص اعزل صغير، طوله يبلغ الى كتفي؟ إنه وهبني الحياة، وبذلك جازفت معه. وعندما جاء ليموت في قرية روخما وهو مريض وعارٍ ويحتضر أطعمته وألبسته وأعطيته الحياة. هذا ما أمكنني فعله! وكأني أولدته من جديد بجهود واعية من الحب والشفقة والحقد، وصار هو ابناً لي، لهذا لا مغفرة لي الآن! الابن يخون الأب – هذا طبيعي فالأبناء عاجلاً أم آجلاً، بشكل او آخر يخونون الوالدين. ولكن عندما أب يخون الابن – لا عفو عنه ولا غفران له. أنا خنت ابني المحتضر المريض كبير السن والذي عانى من الوحدة.
إن الخنوع الروحي أمام العنف الذي تؤججه الخشية الحيوانية على الحياة الشخصية لا يمكن أن يُكفِّر عنه أي شيء «مادي» أو خلاصٍ بدني وقتي. ومن غير الطبيعي «النهوض» بمثل هذا الحمل و«السير» بعد وفاة الأب الى الأمام في الحياة. فالندم – ما هو إلا فهمٌ للخطيئة الشخصية (أي فعل قابيل)، ولإمكانية قتل قريبك بالدم، لكنه لا يعني البتة الغفران.
عمل «تحويل» المسألة الاجتماعية المتمثلة بخلاص الذات مقابل التخلي عن الآخر الى مسألة أخلاقية – شخصية على دفع يوري نجيبين الى البدايات – أي الى الحكاية الإنجيلية عن المسيح ويهوذا، كما في قصة «التلميذ المحبوب» – وهي واحدة من القصص الأخيرة التي صدرت في حياة الكاتب (توفي يوري نجيبين في عام 1994)، نشرتها محلة «أغونيوك» (الشعلة) (1991)، التي نشرت ليوري نجيبين قبل عقد من الزمان أول عمل أدبي.
المسيح وفقاً للرواية الفنية ليوري نجيبين عظيم لأنه أعطى الناس حناناً «أن يتجاوز حبك لذاتك وحدها هذا ما يقوم عليه العالم». ولأن يهوذا «تلميذ محبوب» للمسيح فإنه تظاهر في سلوكه كيف استوعب بإتقان واحداً من أصعب دروس المسيح:
العقاب يجب أن يتبع الجريمة مباشرة. وينبغي أن يكون انتقام في الخيانة. كان بإمكان أي واحد من التلامذة (الحواريين) أن يخون المسيح، لكن يهوذا وحده استطاع فيما بعد أن يشتق نفسه. ومثال بطرس – أفضل دليل: فالتخلي عن المسيح لثلاث مرّات دفعه بالدموع وليس بالمشنقة.