شباط راح ..شباط جاي !!
لدي أكثر من سبب
أن استقبل شهر شباط من كل عام بعدم ارتياح وبانقباض نفسي شديد إذ تعود بي الذاكرة
إلى أيام موجعة فيه تلازمني عقدة الاسم والماضي طيلة عقود من الزمن لم تغادرني
بوقعها المرير والمأساوي..
حين يجيء شباط
أسد نوافذي وأغلق دوني الأبواب لأنه يوقظ فيً الخوف، وقعقعة السلاح وصرير أبواب
المعتقلات والسجون.. ووقع أحذية الجلادين.. يطاردني شباط بليله البارد إذ يندحر
الدفء الذي كان يغمر قلبي بأحاديث أمي وأهلي..
ما فتئت مظاهر
شوهاء لأكف سوداء تطاردني، وأياد متوحشة تشد على عنقي، كأنها سكاكين تحتطب أيامي،
وتمزق كلماتي .
لا أحب شباط،
ولا انسجم معه، في اليوم الثاني منه عام 61 ، شهدت فيه لأول مرة وحشة الزنزانة في
معتقل الكاظمية وانا ما زلتُ
طالباً في الإعدادية، كنا مجموعة من الشباب، في يوم غائم ننثر زهر القداح على
أولئك المتوجهين إلى صناديق الاقتراع في انتخابات نقابة المعلمين.
ولم نعلم إن عصر
الرعب بدأ منذ تلك السنوات .. تأخذنا أحلامنا وأوهامنا بعيداً نطوف بها في الحدائق
والمدارس والشوارع …
لم نفهم معنى اللعبة
بعد .. إذ كنا ما نزال نغني للإنسان والمطر ..
وأنا رهن
الاعتقال لأكثر من أربعين يوماً . لم أع بعد لهفة أمي، وصرختها الصامتة ولا تعثر
خطوات أبي في وهدة الليل، وهو يبحث عني، بعد أن طال انتظارهم لي ..
لن ينتهي
المطاف، فما زال حقد الريح مزروعاً في ارض الخرابين، تمتد جذوره حرائق وتستمر
مهازل تتحول إلى شقاء، الايام تخبئ الموت … القرارات الجائرة التي تصدر عن
(محاكم) لا تمت بصلة للقانون، أشبه بالكوميديا الهزلية، دفعت بخيرة أبناء العراق
إلى السجون، محامين، قضاة، مدرسين، أطباء، مهندسين، مثقفين، عمال، فلاحين، فئات من
الشباب والنساء، في زمن يوصف تعسفاَ
بــ (المد)،
الأحمر على أهله، كانت وقاحة تمارسها أجهزة السلطة وأدواتها القمعية، وتلك الضحايا
ظلت تنسج وهمها وهي قابعة في قاع السجون، حرصاً منها على (الثورة ومهماتها
الوطنية!!!)، كان أبي واحداَ من أولئك الذين يبحثون عن رائحة الوطن خلف أسوار سجن
الكوت عام 62، ويعيش بأمل داخل النفق..
في الثامن من
شباط، تتفجر ثارات الدم، تمتد مخالب الخراب لتشوه تضاريس الوطن، تفتح مغارات
الأحقاد الأزلية، ليعود السيف يسرق رؤوسنا، (هذا زمن الموت، وكل موت، فيه موت
عراقي- ادونيس بتصرف). كذا ألف من العراقيين يموت بلا أكفان.
أمي التي كانت
لنا مثل الأرض والماء بغياب أبي، هي طعم الخبز لا تطفئ تنورها في الفجر، تبحث في
عيون السائلين عن مصير أبي المجهول، وعن سكين تقطع بها ضفيرتها المترعة بالزعفران،
يجرفها البكاء، وصوتها حنين وخوف..
عذراَ لكم
أصدقائي أقولها بصدق: ليست لدي خصومات مع أحد، لي قلب يتسع لمحبة كل العالم، لكنني
اكره شباط،
فهو لا يحمل لي
أية ذكرى سارة في حياتي. لقد عطل في الإحساس بعطر الأيام… أعذروني مره أخرى لأني
أرى سيفه من جديد قريباً من الوجوه.