الروائي وآية الله.. 13 سنةً 13 رصاصةً
يوم وصل آية الله
الخميني العِراق، وأخذ يتنقل بين النَّجف وكربلاء، لم يكن الروائي علاء مشذوب قد
ولد بعد. عرف في طفولته وصباه «عكد» أو درب السَّادة، ولعله خلال لعبه مع أترابه
كان يرى تحرك آية الله بلا موكب ولا خواص، إلا النَّفر الذي قَدم معه مِن إيران
فتركيا فبغداد. لذا كانت الفكرة ضبابية عنده عن تلك الشَّخصية التي ملأت إعلام
العالم في ما بعد. فعندما ترك آية الله العراق كان عمر الروائي أحد عشر عاماً، لم
يطرأ على باله أن يكون اسم هذا الرَّجل سبباً بقتله، ولم يتنبأ لنفسه أن يصير
روائياً يُشار إليه بالبنان بين جيله داخل العراق، وفي زمن التناحر القاتل بين
الأقوام والمذاهب.
لم تبق صورة آية
الله لدى طالب المدرسة، خلال الحرب العراقية الإيرانية، ضبابية، بل وضحت تماماً
مِن قِبل إعلام عراقي رسمي يسميه «الدَّجال»، وإعلام إيراني رسمي ومقاومة إسلامية
يسميه «الإمام»، وبين اللَّقبين يقترب إلى ما بين صورة «المسيح الدَّجال» و«المهدي
المنتظر»، وحشو دماغ الطالب بمصطلحات وتسميات خرجت مِن قمقم الماضي مِن مثل
«المجوس» و«الكفار».
عاش الروائي
الكربلائي علاء مشذوب شاباً سنوات الحرب والحصار، وكان ينتظر مع غيره مِن أبناء
جيله لحظة انعطافة جديدة في تاريخ بلاده، إلا أن تلك اللحظة قلبت لديه الموازين
والمقاييس، فصورة آية الله (العدو) حلت على أعمدة مدن بلاده ولياً، والجنود
الشهداء في الحرب تحولوا إلى مجرد أزلام النظام (المقبور)، يتوسل أهاليهم لتسلم
معاشاتهم مقابل الدماء التي سفكت في الحرب مع جيش «آية الله». فماذا سيكتب
الرُّوائي، وفي ذاكرته ليس غير الحروب والحصارات والغزوات، حتى أردته ثلاث عشرة
رصاصة. وعلى ما يبدو أنه كان قد تنبأ بالعدد، وهو يعد لآية الله سنوات وجوده
وتنقله بين كربلاء والنَّجف، أي بين ضريحي عليٍّ وولده الحُسين، والأخير يُوصف أنه
خرج ضد الظلم، وليس أظلم مِن ثلاث عشرة رصاصة غُرست في جسد الرّوائي، وهو خارج مِن
اتحاد أدباء لا وكر رذيلة، كي يدعو بتطهيرها.
كتب «مشذوب» على
صفحته في «فيسبوك»، ما كشف عن هوية راكب الدَّراجة الذي عدَّ رصاصته ثلاث عشرة، عن
كلِّ سنةَّ مكثها آية الله بين كربلاء والنِّجف: «كانت عندي فكرة ضبابية عن هذا
الزُّقاق الذي سكنه الخميني، وهو فرع من الزقاق الرئيس والطويل والذي يطلق عليه
عكد(درب) السادة)، هذا الرجل سكن العراق ما بين النجف وكربلاء لما يقارب ثلاثة عشر
عاماً، ثم رحّل إلى الكويت التي لم تستقبله، فقرر المغادرة إلى باريس ليستقر فيها،
ومن بعد ذلك صدّر ثورته إلى إيران عبر كاسيت المسجلات، والتي حملت اسم (ثورة
الكاسيت). ليتسنم الحكم فيها، ولتشتعل بعد ذلك الحرب بين بلده، والبلد المضيف له
سابقاً» 17/1/2019(الساعة الخامسة وست دقائق).
يصعب اعتبار عدد
السنين والرصاصات في جسد الرّوائي المغدور مجرد مصادفة، ويُستبعد أن هذا التَّقدير
كان مِن إلهام المنفذ، فالأخير لا نظنه قد قرأ كلمة الروائي وفسرها بهذه الدقة،
إنها الفكرة كانت فكرة جهاز محترف بأساليب الثّأر وطرق التنفيذ، فليس هناك قتل بلا
رسالة موجهة لبقية الكُتاب، وهي الكلمة تعادل رصاصة.
كان الرّوائي حالماً
بالحرية والدّيمقراطية، ولم يدرِ أن الاحتكار الوحيد الذي صار مشاعاً، للجماعات
المسلحة بالسلاح والدِّين، هو احتكار القتل. يذكر الجاحظ(255هـ) عن هذا الاحتكار،
أن ملك «الزابج» سمع صراخ امرأة، فقيل له: أكل التّمساح ولدها، فاستفز الملك مِن
هذه الشَّراكة قائلاً: «وفي مكان أنا فيه شيء يُشاركني في قتل النَّاس»! فخاض في
الخليج، وخاض بعده النَّاس يلاحقون التَّماسيح «حتى أخذوا كلّ تمساحٍ فيه أخذ
يدٍ»(رسائل الجاحظ). هكذا كان احتكار القتل أرحم مِن إشاعته، فالجهة الواحدة يمكنك
مداراتها أو مراوغتها، وربَّما اكتفت بأقل مِن القتل مقابل الحياد اتجاهها. يفتش
العراقيون المسجلون على قوائم الاغتيالات عن محتكر للقتل، قادر على قمع
التَّماسيح؟!
إن ما يجمع بين
الروائي وآية الله المكان «درب السَّادة»، وكانا يجهلان بعضهما بعضاً، كان الروائي
يلهو بأتربة الدَّرب وآية الله يمر بلا حاشية وحمايات، ليدور الزَّمان دورته فيصبح
لمز آية الله الإيراني، حيث وجود جنوده المجندة وفي زمن الدِّيمقراطية العراقي،
يكفي لغرز ثلاث عشرة رصاصة مقابل كلمة.
فلا قيمة عندهم
لروائي وقاص وفنان وكاتب وناقد وسينمائي، بذل أكثر من نصف عمره ليجمع بين هذه
الفنون، عُرف داخل العراق وخارجه، لديه قدرة وحماسة على الإنتاج الثقافي. مِن
رواياته: «مدن الهلاك – الشاهدان»، «فوضى الوطن»، «جريمة في الفيسبوك»، «آدم سامى
– مور»، «جمهورية باب الخان».
أقول: كم قليل الجهد
المصروف لصناعة القاتل، وكم الجهد الكبير والزَّمن الطويل المبذول في صنع مثقف
كعلاء مشذوب؟! هذا، وبين القاتل، المحمي بعباءة آية الله، والمثقف ما نُسب إلى ابن
المقفع(قتل142هـ) في قاتله: «إذا ما مات مثلي مات شخصٌ/يموت بموته خلقٌ كثير/وأنت
تموت وحدك ليس يدري/بموتك لا الصَّغير ولا الكبير»(الصَّفدي، الوافي).