ايران والعرب: ما هكذا تورد الإبل!
نشر الدكتور كمال خلف الطويل مقال في صحيفة الأخبار اللبنانية، نعيد نشرها لأهميتها
من عاش تلك الأيام، يذكر كيف سابق العرب الايرانيين في اعتبار الحراك الشعبي في ايران، على مدار 1978، وكأنه وعدُ قيامتهم… حتى وإن نال الأخيرون سبق المبادأة. كان محمد بهلوي في المخيال الشعبي العربي، لربع قرن من الزمان وبحقّ، صنو إبليس لا أقلّ، كونه واحداً من أشرس أعوان الاستعمار في الحوض العربي – المسلم، وواجهته – بطبعتيه القديمة والجديدة – في كسر إرادة الأمة الايرانية في انتزاع ثروتها الطاقيّة من براثن الهيمنة الأنجلو – أميركية، ممثّلة بقيادة الوطني الايراني العظيم، والقدوة العالمثالثية، الدكتور محمد مصدق. ليس ذلك فقط، بل كان المتآمر الدائم على وحدة أرض العراق وشعبه، من شط العرب الى سرسنك، وأهم الركائز الاقليمية للاستعمار عبر حلف بغداد (السنتو لاحقاً) ونظيره الستيناتي: الحلف الإسلامي، والثاوي المتربص بضفة خليج فارس الغربية، وحليف اسرائيل المناطقي ومزوّدها بالطاقة منذ غداة حرب السويس 1956. وعليه، ما أن اندلع الحراك هناك، في كانون الأول/ يناير 78، حتى اندلع معه رويداً جَيَشان مشاعر عربية ملأت أفئدة الناس تآزراً مع الأمة الايرانية – بل واعتبارها قدوة نضال – ونبذاً لاعناً لشاهنشاهٍ ليس في سيرته إلا الذلّة للسيد والغطرسة نحو أمته وحوضها. وصل أزر شعوب أمة العرب للأمة الجارة حد التماهي منذ ايلول/ سبتمبر 78، حين بات الصراع صفرياً بينها بأسرها وبين تابعٍ فقد رشده واضطرب ناموسه، الى حدّ صار جنرالاته الخيلائيون في مهب الريح وعاجزين عن حرفها الى مسار معاكس أو مغاير. والحال ان الأمم المسلمة – وضمنها أكبرها: العربية – كانت صفاً واحداً مع حراك ايران. والحديث هنا عن غالبيتها الساحقة السنيّة قبل أقليتها الكبيرة الشيعية. نظر المسلمون الى روح الله الخميني يومها كبشارة مخلّص لهم، لا لأمته فحسب.
لكن الأمل الكبير لم يستطع ان يقِرّ مستداماً لأكثر من عامين أو ثلاثة، بفعل عوامل عدة مغالِبة، قاربت حدّ أن صارت شبه غالبة، من أول «الفلتان» الثوري، إثر انتصار الثورة ولأعوام بعده، الى إصرار القيادة الايرانية على إدامة الحرب، وهجوماً في داخل العراق، منذ تموز/ يوليو 1982 ولسنوات ست بعده، رغم انتصار ايران – اواخر أيار / مايو 82 – على قوات الاجتياح العراقي لخوزستان ودحرها الى البصرة. يومها، عرض الرئيس العراقي عقد صلح تعاهدي يتضمن العودة الى اتفاق 1975 الذي خرقه يوم شن حربه المجنونة في أيلول/ سبتمبر 1980، وتطبيع العلاقات وخلافه. ساوره وقتذاك ظنّ ان دنوّ موعد شن اسرائيل لحربها على لبنان كفيل بتصعيب مسألة استئناف الحرب على أي من طرفيها. لكن طهران «خيبت» ظنه ومضت الى كمين تاريخي مستحكم جعل من الجارين المسلمين أداتي اقتتال مستنزِف في يد الغرب الطامح الى كسر شأفتهما، معاً وسوياً.
فاقم من سوء أثر استمرار تلك الحرب تضاعيفها التي تناسلت من رحمها عفناً وقيحاً؛ من أول صفقات السلاح الأمريكو -اسرائيلية، من قبْل – وإنْ بالذات وفق – سياق ايران – كونترا غيت، وحرب المدن المتبادلة، واللجوء الى الكيماوي… وغيرها من أسقام. وما إن لاح شعاع خافت، عند نهاية الحرب، إيذاناً بصفحة تساكن مسالمة جديدة، حتى مادت الأرض من تحت الاقليم على وقع اجتياح القوات العراقية للكويت في آب 1990. كانت من تجليات ذاك الحدث المعتوه فوضى عارمة، شبه منظمة، ضربت جنوب العراق ذا الغالبية الشيعية والعربية، وأحالته ساحة حرب بين جموع هائمة وغاضبة، بفعل ميراثٍ من سوء التفاهم التاريخي مع البعث الحاكم – بل ومَن قبلَه وإن أقل ضيقاً… وبفعل وطأة حربٍ وَلدت هزيمةً منكرة، وانضافت على سالفةٍ ضروس طالت سنواتٍ ثماني عجاف، وعلى حصار شامل بدأ يضغط على عنق المجتمع بسرعة قياسية، رغم انها بعدُ شهور ستة من فرضه… وفي طليعة الجموع تلك كانت كتائب من المعارضة الشيعية المسلحة، اللاجئة الى ايران، مَقودةً من مفارز من الحرس الثوري الايراني. وما بين انفلات الحبل على غاربه، تدميراً وإحراقاً من تلك القوى، ورد الجيش الماحق على خروج الأمر من عقاله، وقع المجتمع العراقي مرةً أخرى في كمين احتراب لابد، بعد أن أُهجع جنوبه، فضلاً عن شماله الكردي، بقوة القوة.
رغم ذلك، وعلى طول التسعينات، ثم بعدها – جزئياً – عبر العشرية الأولى من الواحد والعشرين، احتفظت ايران بصورة مقبولة في الذهن العربي الجمعي بفضل أمرين: حزب الله في لبنان أولاً، والمقاومة الفلسطينية ثانياً، وهي الراعي للاثنين. ثم كونها على مرمى هدف الغرب، وبصمود لافت. كان لجلاء اسرائيل أحادي الجانب من لبنان في 2000 ثم لحرب صيف 2006، وكلاهما بفضل أداء حزب الله المشهود، فعل الحفاظ على رونق ما لدور ايران الاقليمي.
لكن عواراً واسعاً ضرب سمعة الجمهورية الاسلامية، في 9 نيسان 2003 وبعده، عندما فتح العرب أعينهم على زمرٍ من مُواليها العراقيين وهم – مع أقرانهم من «علمانيين» – يمتطون الدبابات الأميركية الى بغداد تحت يافطة الانعتاق من تسلط واستبداد خصم ايران الألدّ فيها. نمت بتسارعٍ ريبةُ ان تَقَوية طهران، طلباً للخلاص من خصوم لها اتشحوا برداء سنّي (كما طالبان، وكما رأت طهران في صدام، فوق «عروبيته»!) تتجلى في كونديمينيوم وظيفي مع «الشيطان الأكبر» في العراق، كما سالفاً في أفغانستان. كانت ايران – وما زالت – شريكاً في ارساء دولة «المكوّنات» الملعونة في العراق، والتي لم تبرع إلا في «بوغ» ثروات العراق وفي استثارة الفالق المذهبي وتعميقه. ولعل مثالي طرد اللاجئين الفلسطينيين من العراق وإعدام صدام اول أيام أضحى 2006، ناهيك بتذويب عروبة العراق نصاً وواقعاً، دالّة على سوءات فِعالها فيه. كان مفهوماً، بل ومطلوباً، ان يكون العراق جاراً صديقاً، بل وحليفاً لإيران… ذلك يتطلب أولاً ان يكون عفيّاً قوياً موحداً، أي عربياً، وإلا صار وصفة عدوى مرَضية ومقوِّضة لجاره الإيراني: «مكوناتياً» ومذهبياً وخلافه.
والحال أن مرَض العراق هو المعول الأساس في تصديع نظرة العرب لإيران. فيه فُعِّل الفالق السني – الشيعي وذُّوِبت عروبة العراق وفُككت بنيته فدرلةً وأقلمة. وفيه، فقط، بوسع إيران ان تدرك ان عكسها المسار منجاتُها من بلوىً يتمناها لها أطالسة، واستعادة لألق جيرةٍ صديقة وآمنة. فرغم ما جرى على صورتها في «الشام»، على خلفية سنوات ست من الانخراط الميداني بالحرب السورية، إلا أن سياقات تلك السياسات تندرج تحت باب الجيوبوليتيك أكثر منها تحت بند الهيمنة والإلحاق، كما نحو العراق.
في «الشام» إدراك إيران ان قيمتها الجيوستراتيجية لا تكتمل نصاباً إلا بكونها طرفاً مقرراً في الصراع ضد اسرائيل، وبما يعنيه ذلك من نسج علائق في سوريا ولبنان وفلسطين بسماكةٍ لا يمسسها ضرّ. وعليه، فستقاتل بما تحت أيديها من وسائل حفظاً وحفاظاً على – لا بل وإعلاءً لـ – حلفٍ يجمعها مع شركائها في الاقليم ويصون ويعزز منعتهم. لكن ذلك تصاحب مع تزيّد ممارسات لا ولم تنفع إلا في استفزاز الرأي العام وأخذه ليتقبّل تقولات واتهاماتٍ باطلها كثير،, لكن بعضها يغري بالتصديق. ثم صار لا شغل ولا شاغل لـ«حلفاء» إلا التسبيح بحمد طهران صبح مساء وكأن تلك حصة مقررة على من يقرّون النهج وينفرون من التزيد… ما هكذا تورد الإبل يا أهل الحلف!
طيب، ما هي علّة العلل في «المشروع» الإيراني؟ هو أولاً، وتعريفاً، رباعي القوائم: دولتي – شيعي – اسلامي – وعالمثالثي. وثانياً، والأهم، أن قوائمه غير متساوية، وبفارق بيّن. فساق الدولتي قد تعرطلت قياساً بالإسلامي، وساق الشيعي قد ثخنت عنه أيضاً. وبلغ علوّ الاثنين، سيما الدولتي، حد أن بدت ساقا الإسلامي والعالمثالثي ضامرتين بالقياس للعيان.
تحتاج ايران، ويحتاج الحلف معها، الى وقفة موضوعية مع النفس تراجع فيه مسارها العربي والاقليمي، وأخصّه العراقي، وبرشاد من «يريد حلّاً»، لا بضلال من أدمن المكابرة وإطراء الذات. ولعل أول ما ينبغي أن تستقلبه طهران برويّة هو أن قيادة عالم الإسلام خارج وسعِ مشروعها في غياب شريك عربي ندّي وفاعل، وأن عروبة الشرق – الحقيقية، لا المدّعاة زيفاً ممن عاش عمره على حربها – ضمانةُ جوار حليف، لا تهديدٌ لمصالحها الدولتية، وأن «المدى الحيوي» مشتركٌ لشركاء الاقليم، لا محتَكرٌ لواحد من ثلاثة.
في عمر الأربعين، تكون فصول المراهقة واليفع وأول الشباب قد انزاحت لصالح زمنٍ فيه سداد البصيرة هو سيد الأحكام، وينفسح الدرب أمام تمثّل حكمة: اعقلوها وتوكلوا!
المصدر: صحيفة الأخبار اللبنانية